خالد محمد الدوس
الفساد ومظاهره -لا مناص- يعد آفة مجتمعية عرفتها المجتمعات الإنسانية منذ فجر التاريخ، وهو مرض عضال تعيشه معظم الدول والمجتمعات سواء كانت متقدمة أو غير متقدمة ويرتبط ظهوره واستمراره برغبة الإنسان في الحصول على المكاسب المادية أو المعنوية بصرف النظر عن استحقاقه لها أم لا..! ومع ذلك يسعى للحصول عليها، ولذلك يلجأ إلى وسائل سرية وطرق ملتوية للوصول إليها وامتلاكها سواء عن طريق الرشوة أو المحسوبية أو الواسطة أو استغلال السلطة لأغراض غير مشروعة، أو الاختلاس العام وغيرها وإقصاء من له الحق فيها وحرمانه منها..!
وللفساد الذي يضع (يده) على كل المجالات وفي جميع الاتجاهات.. عدة أشكال وأنواع.. مثل الفساد العلمي والفساد الاجتماعي والفساد الرياضي والفساد الأخلاقي والفساد البيئي والفساد الاقتصادي والفساد الإداري.. وغيرها من مظاهر وأشكال الفساد في مجالات الحياة عامة. لأن الأصل في أن الفساد هو أحد الأعراض اللا معيارية، والأمراض المجتمعية التي ترمز إلى وقوع خلل في النسق العام (المجتمع) إذ إن القبول بغير المسموح يشكل خللا في منظومة السلوك والتصرفات ينتج عنها تآكل معايير الأخلاق والقيم الاجتماعية الأصيلة لدى الفاسدين والخارجين عن قواعد الضبط الاجتماعي والديني والقيمي. والأكيد أن الفساد موجود في كل زمان ومكان وكان في الماضي وسيكون في الحاضر وسيظل إلى أن تقوم الساعة ما دام الخير والشر موجودين ومتدافعين..!
ويشكل الفساد وأشكاله المتنوعة وبحسب علم الاجتماع الأمني.. ظاهرة اجتماعية معقدة وصعبة ليس مجرد جريمة فردية، بل هو ظاهرة مركبة يجمع بين الأبعاد القانونية والاجتماعية والاقتصادية، ونظام علاقات قوة يُعيد إنتاج نفسه عبر آليات مؤسسية ثقافية، كما يعد تحديّا للحوكمة الرشيدة لأنه يشّوه آليات المسألة ويضعف المجتمع الإنساني المعاصر.
ولذلك اهتمت الكثير من العلوم الاجتماعية والإنسانية والإدارية والشرعية بدراسة هذه الظاهرة العالمية التي لم يسلم منها أي مجتمع من المجتمعات البشرية من العصور الماضية حتى وقتنا المعاصر، ومن هذه العلوم الاجتماعية على وجه التحديد (علم الاجتماع)، الذي كان صاحب الريادة والصدارة في ولادته فرعا حيويا حديثا يعني بدراسة مظاهر الفساد وعلاقته بالمجتمع بمسمى (علم اجتماع الفساد).
ففي الوقت الذي يصّور فيه الفساد على أنه انحراف أخلاقي فردي.. يقدم علم الاجتماع منظورا أعمق في تحليل سوسيولوجي يرى الفساد كنتاج لتفاعلات معقدة بين الافراد والمؤسسات والبنُى الاجتماعية، وهذه الظاهرة المدّمرة للقيم والفضيلة.. لا تنبع من (تفاحة فاسدة) معزولة..!! بل من أنظمة متشابكة من الممارسات والعلاقات والمعايير التي تشكل سلوكيات المجتمعات، لذا نجد ومن اهتمام علم الاجتماع بدراسة ظاهرة الفساد وجذورها من واقع نظرياته التفسيرية والتحليلية في تراثه الأصيل.. ومنها «النظرية البنيوية الوظيفية» التي ترى أن الفساد قد يلعب أحياناً دوراً وظيفياً في أنظمة ذات مؤسسات ضعيفة وبالتالي يصبح بديلا غير رسمي لآليات اتخاذ القرارات البطيئة أو المعطلة، لكن هذا الحل المؤقت يضعف المؤسسات الرسمية على المدى الطويل، مما يخلق حلقة مفزعة من الاعتماد على الشبكات غير الرسمية، كما تناولت ثاني أهم النظريات الاجتماعية المتمثلة في «النظرية الصراعية» وهذا المنظور يرى أن الفساد أداة للهيمنة تستخدمها النخب والصفوة والملاك لحماية امتيازاتها وإعادة إنتاج تفوقها عبر تحويل الموارد العامة إلى مكاسب خاصة، تعمق هذه الممارسات الفجوات الطبقية وتضعف قدرة الجماعات المهمشة على المطالبة بحقوقها..! وهناك نظرية الشبكات الاجتماعية التي يظهر الفساد -وفق منظورها العلمي- غالبا كظاهرة شبكية حيث تبنى علاقات الثقة غير الرسمية بين الفاعلين في القطاعين العام والخاص، هذه الشبكات تسّهل تبادل المنافع عبر «الأبواب الدوارة» بين المناصب الرسمية والقطاع الخاص وتخلق «ثقافة زبائنية» تقدم فيها الخدمات مقابل (الولاءات الشخصية)..! مع الإشارة إلى دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية بشكل مباشر في ترسيخ القابلية للفساد في شخصية الفرد، خاصة الأسرة والمؤسسات التعليمية وجماعة الأقران.. قد تكون لبنة أساسية في تصدير إنسان فاسد إلى المجتمع..!! خصوصا وأن الإنسان هو خليط ومزيج بين الفطرة والاكتساب، قد يطغى أحد العناصر على الآخر، ولكن يبقى دور السلوك المكتسب واضحا وجليا في سمات شخصية الإنسان وتكوين معالمه..!
علماء الاجتماع يعتبرون الفساد ظاهرة اجتماعية يستخدمونه للدلالة بصورة عامة على مجموع الأعمال المخالفة لقواعد السلوك الاجتماعي، بهدف تحقيق منافع شخصية على حساب المصلحة العامة. ويرى العلامة ابن خلدون أن أساس الفساد هو الولع بالحياة المترفة في المجتمعات بالإضافة إلى تراجع القيم وتردي الأخلاق، وهيمنة الفكر المادي والفلسفات العلمانية وضعف ثقافة المجتمع، وهشاشة منظومة القيم والضبط الاجتماعي والأخلاقي في ظل غياب مفهوم المسألة والعدالة الاجتماعية.
ولخطورة الفساد على البناء الاجتماعي ووظائفه المختلفة وآثاره التراكمية التي تتحول إلى ديناميكية ذاتية التعزيز.. تسهم في تأكل الثقة الاجتماعية وتقليص رأس المال الاجتماعي الضروري، وتفريغ المؤسسات من مضمونها بتحويل القوانين إلى أدوات انتقائية التطبيق، وتكريس التفاوت، أي تحويل الفساد من ممارسة إلى نظام يكرس الامتيازات لأنه كعملية هدامة.. يتطور ويتكيف مع الإصلاحات الموجّهة ضده.!! ظهر فرعاً خصباً بمسمى «علم اجتماع الفساد» يدرس الفساد ليس مجرد جريمة فردية بل كظاهرة اجتماعية معقدة ومتشابكة تنشأ في تفاعلات بين الأفراد والمؤسسات والثقافات والهياكل الاجتماعية الأوسع، لا يركز على الأفعال المنحرفة، بل على الشروط الاجتماعية والثقافية والتنظيمية التي تجعل الفساد ممكنا بل وأحياناً «طبيعياً» أو مقبولاً ضمنياً. وبالطبع عملية مكافحة الفساد الفعالة تتطلب فهما عميقا للسياق المجتمعي الخاص الذي يزدهر فيه، وهو ما يوفره هذا الحقل المعرفي الناشئ بعد أن نقلنا (علم اجتماع الفساد) من حقل الملاحظات الأخلاقية السطحية إلى حقل التحليل العلمي العميق للأنسجة المجتمعية وهنا تكمن قوته كعلم يفك شفرة التعقيد الاجتماعي.