أ.د. محمد خير محمود البقاعي
لكي تكون معاصراً؛ كن أصيلاً، ولكي تكون عالمياً كن معاصراً. مقولة تختصر ما ينبغي أن نكون عليه لنساير ركب المسيرة العالمية في كل المجالات. ومهما تقدمت التقنيات، وتنوَّعت مناهج التفكير، فستظل اللغة هي الأساس الذي تتداعى بدونه الأفكار، ويعود البشر إلى الإشارات والهمهمات التي كان عليها الإنسان الأول. إننا اليوم، وقد ارتقت التقنيات التي اجتذبت ملايين البشر من كل الأعمار والمستويات، إلى وجبات جاهزة في مسارب الحياة، وطرق تعبير أصبحنا معها بحاجة إلى بناء شخصية متماسكة فكرياً ولغوياً وتقنياً؛ نقدمها للعالم، متعمقين في اهتماماته، وسعيه إلى سرعة الإنجاز، وإلى حسن أداء ما يوفر له العيش الكريم. أبهرنا الذكاء الاصطناعي فكرياً ولغوياً، ووضع معارف العالم على بعد لمسة من إصبع أو رفة من عين، تضعان أمام المواطن الكوني عالماً من المعارف كان الحصول على بعضه يحتاج إلى سنين عدداً. كل ما ذكر إن لم يوضع في قالب لغوي يمر بمرحلة من التحديات الصوتية والصرفية والنحوية والأسلوبية في أداء المعنى. وما تعيشه اليوم لغتنا القومية من تحديات تظل محاولات المزامنة فيها دون المرجو، على الرغم من الجهود الجبارة المخلصة التي توفر لها الدول العربية على اختلاف إمكاناتها، ما يلزم لمسايرة ما وصفناه. لقد بدأ تحديث اللغة العربية، وسلكها في إطار العالمية لتخرج من تمثّلات البيئة البدوية في أول الأمر، ومن احتياجات المدنية فيما بعد، ولتساير الحروب وبناء الممالك والدفاع عنها، ودخول العامل الإسلامي المتشظي في بناء الدولة وثقافتها وسياستها، وكانت العربية في كل تلك الأحداث والمواجهات تساير التطور في بنائها وأسلوبها وإن كان ذلك يثير غضب اللغويين الأفذاذ الذين جمعوا ودوّنوا وأبدعوا، ولكنهم تركوا سياق التطور الفكري لعلماء من بني جلدتهم خرجوا من إسار القدماء إلى رحابة المحدثين لغوياً وفكرياً، وبدأت منجزات لغات العالم في الصياغة لأداء المعاني تتسرب، وتلقى قبولاً وسيرورة لدى الأجيال التي تسهم في تطويرها وتوريثها لجيل يسهم أيضاً في عملية الفهم والإفهام. إن نظرة موضوعية لحال اللغات تظهر أن حضور لغة ما في علوم العالم وتقنياته، يعتمد على حضور الناطقين بها في سيرورة الحضارة الإنسانية. وليس هذا بجديد لأن لغة التراث العلمي العربي التي ينبغي أن تكون موضع دراسة أكثر من لغة الشعر والنثر، وما دخل في رحابهما، لأنها هي التي تظهر كيف استطاعتربية ابن رشد وأقرانه من أطباء ومهندسين وموسيقيين وطباخين وعسكريين، وعرب الأندلس وأنحاء الكون التي بلغتها الفتوحات العربية، أن تجد لها مكاناً في تراث العالم، وكيف كتب علماؤها بلغة الحضارة التي لم يستعص عليها التعبير عن تلك العلوم بلغة تساير أفهام أهل العصر، وتوجد جيلا مبدعا من العلماء. هل اللغة العربية اليوم في احتفائنا بها بلغت ما بلغته بنيتها وطرق تعبيرها عن المنجزات العلمية المعاصرة ما بلغته في تلك العصور؟
لست أشك أن مجامع الفكر المعاصر لغوياً وتنظيرياً تحاول تدارك ما أهملته الدراسات التي أنكرت عملية التطور اللغوي، وفي طرق التعبير والمجازات التي بدأ تغيرها منذ الفتوحات الإسلامية، وبلغ مداه مع الحروب الصليبية، وتجذر في طرق التعبير والتفكير في مصر منذ حملة نابليون 1798م، وما حمله معه من علماء طوروا أشياء كثيرة ليثبتوا حسن نواياهم التي لم تكن بالطبع حسنة، ولكنها تركت في العلوم واللغة والحياة آثاراً تلقفها المجتمع العلمي المصري، وانتقلت إلى العرب عن طريق الكتب والصحف والإذاعات والتلفاز والأعمال المسرحية وغير ذلك من طرق التعبير. لقيت الطريقة الفرنسية في التعبير والعنونة والعلوم رواجا في العالم العربي، وصارت عناوين الكتب والأفلام السينمائية والروايات تستلهم البناء اللغوي الغربي، الذي وضع فيه المحتوى العربي الإسلامي، وبدأت التوجهات السياسية والفكرية تبحث عن مرجعيات لم ترض عنها فئة كبيرة من المسلمين، ولكنها على قلة أتباعها في البداية، وتعرضهم لشتى أصناف الاتهامات المحقة حينا والارتجالية أحياناً أخرى، وجد أصحابها أنفسهم في التيارات التي بدأت تعصف بالبنية اللغوية؛ بناء وأسلوباً، لنقل علوم لم يكن للأمة متبحرون فيها إلا من أبنائها الذين يتقنون لغات أخرى، يعبرون بها طبقاً لقوانينها، ولم تلق آراؤهم التطويرية قبولاً لأسباب شتى. إن العربية المعاصرة يحمل أبناؤها اليوم مهمة الوصول إلى الآخر لغوياً، وثقافياً، وحضارياً، وتقنياً. إن لغة المنتج الثقافي والعلمي العربي اليوم هي أكثر قابلية للترجمة إلى اللغات الأخرى من لغة التراث، وأعد هذا من باب الفضل الذي ينقلنا إلى العالم أدبياً وعلمياً وتقنياً، ولكن هذا يحتاج إلى جهود مضاعفة بعيداً عن الاستسهال والركون إلى التقنيات في الترجمة، انطلاقاً ووصولاً، لأنها وإن كانت قد حققت تطوراً كبيراً في مجال الترجمة التي تظل في كثير من الأحيان آلية تحتاج إلى لمسة تجمع بين التراث والحداثة، مبنى ومعنى. لغات العالم اليوم يقترب نتاجها الحديث والمعاصر بعضه من بعض؛ أداء للمعنى، ومعالجة لما يعترض الإنسان المعاصر. وقد تنبه القائمون على مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية إلى هذا المسار، فجابت أعماله وكتبه أنحاء العرب بما يقارب بين الشعوب، ويبرز الخصوصية العربية والسعودية في حلة من تراث، ومسلك من انفتاح ، واطلاع واحترام لثقافات العالم، ولم يبق إلا أن يعمد المجمع إى تبني ترجمة أعمال سعودية وعربية وإسلامية مكتوبة بالعربية ترجمات رصينة إلى لغات العالم، وألا يقتصر ذلك على الرواية والقصة والسيرة الغيرية والذاتية، وإنما يمتد إلى كتب الفلسفة وعلم الاجتماع والتقنية بكل أشكالها وتطوراتها ليطلع العالم على منجزاتنا التي تجمع جودة الفكر إلى بلاغة الأداء المعاصر القريب من كل لغات العالم العالمية؛ تبدأ من الشعور بالذات، ولم يكن في ذهن كاتب أو عالم في أنحاء العالم أنه يكتب لغير أبناء جلدته، حتى كانت الترجمة التي قام عليها مترجمون يؤمنون بقدرة الأفكار على بلوغ ما لا تبلغ الخصوصيات والأنا المتضخمة. رأيت رأي العين كتاباً فرنسيين كتبوا لمواطنين ولقراء الفرنسية، ولما تلقوا عروض الترجمة طاروا بها، وشجعوها لأنها في نظرهم بداية العبور إلى الآخر العربي بتراثه ومعاصرته. تحدثت والتقيت بعدد ممن ترجمت كتبهم ورأيت مدى فرحتهم وإقرارهم بأهمية ما قمت به لمسارهم العلمي والشخصي.
نريد للكتب التي يختارها الآخر الغربي للترجمة أن تعبر عن مجتمعنا المعاصر في كل أحواله، ولا يخضع هذا الاختيار لإغراءات مادية أو نفعية إلا ما يجنيه من يترجم كتب الغربيين من زاد قليل. والمملكة اليوم في ظل طوفان الرواية والسيرة الذاتية والغيرية، وسعي أصحابها بترجمتها تحتاج إلى من يهتم بالكتب الفكرية والفلسفية والتقنية التي تبرز الوجه الحضاري للحكومة والشعب. لا يكون إدراك العالمية بترجمة رواية أو سيرة أو كتاب يدفع مؤلفه للمترجم، وإنما بأن يختار المترجم العربي أو الغربي الكتاب عن قناعة بمضمونه، وبما يضيفه من تجربة فريدة، أو علم مفيد. ما ترجمته أوروبا من تراثنا أسهم في نهضتها، وقرآننا الذي كان كثير من المستشرقين يتمنون أن تنتهي مسيرتهم بترجمته، وشعرنا القديم الذي انتشرت ترجماته في الألمانية مما جعل الألمان يتساءلون عن جدوى ترجمته ونشره. كل هذه حالات ثقافية عالمية نرجو أن تبلغها لغتنا وأدبنا اليوم وفي الغد، التفاتاً من العالم، ورغبة من نخبة في أن تطلع شعوبهم على تجربة إنسانية فريدة. لقد اتضح لي أن كثرة كاثرة من أساليب التعبير العربية في مصر والعالم العربي بعد حملة نابليون على مصر (1798-1801م)، وما حمله معه قائدها نابليون بونابرت من علماء في مختلف المجالات، وما كتب عن الحملة وقائدها ترك آثاره الفكرية، وطريقة التعبير اللغوية في العربية التي خرجت من أساليب تعبيرها، وجملة من تراكيبها ومفرداتها من دوحة التراث إلى فضاء اللغة، وصار ذلك مساراً سلكه الشعراء والروائيون الذين لقوا رواجاً لدى شريحة كبيرة من أهل اللغة والأدب في العالم العربي وفي مصر على وجه الخصوص. وما زال هذا التأثير مستمراً حتى يوم الناس هذا، علماً أن مجتمعات اللغات العالمية خرجت من إسار طرق تعبير أولئك الذين صاروا من القدامى، وصار البحث اليوم عن نماذج تعبير ابتدعها كتَّاب معاصرون، بل من كتاب الأغاني وسيناريوهات الأفلام. في هذا الزحام تشتعل المنافسة على السيرورة بالصورة والكلام الذي يتحول إلى أيقونات وعبارات تتناقلها الأجيال.