عبدالله العولقي
قبلَ عدة سنوات، نشرتْ إحدى المجلات العربيّة تقريراً سياحيّاً عن الآثار العربيّة في إسبانيا، وفي مقدّمة ذلك التقرير البديع ذكر المحرّرُ أنّ الرحلة كانت منْ أمتع الرحلات السياحية في حياته ولمْ يعكّرْ صفوها إلّا حاجز اللغة، فالمرشدة الاسبانيّة لا تتحدثُ إلا بلسان قومها!، فعلى الرغم من محاولات بعض أعضاء الفريق التحدث معها بالانجليزيّة أو الفرنسيّة إلا أنّها كانت لا تتحدّث معهم إلّا بلغتها الاسبانية، أمّا اللطافة في القصّة فقد جاءت في خاتمتها عندما ودّعتهم، ثمّ اعتذرتْ لهمْ أنّها تُجيدُ الإنجليزيّة والفرنسيّة ولكنّها تعتزُّ بلغتها الأم!.
لقدْ كانت مقولتُها درساً أليماً لهيئة تحرير المجلّة، فالحديثُ هنا عن الانهزاميّة الثقافيّة التي نجدها اليوم عند بعضِ المُثقفين العرب المُولَعين بالثقافات الغربيّة، فنحن نعاني إذاً من أزمةٍ صارخةٍ لا بدّ منْ مواجهتها، فاللغة هي الحاضنة الأساسيّة للثقافة، والثقافة هي العقليّة المحرّكة لطريقة تفكير الشعوب، والسّلوك المعتاد الذي تنتهجه الأممُ في حياتهم اليوميّة، وإشكاليّة هذه الأزمة الثقافيّة أنّها تتعلّق بعدّةَ محاور متشابكة في مجالاتٍ مختلفةٍ من التعليم والعمل والتربية والاعلام والتكنولوجيا، ففي التعليم لا زلنا منذ عشرات السنين ونحن نناقشُ تدريس العلوم التطبيقيّة كالطب والهندسة باللغة العربية على الرغم مِنْ نجاح تجارب كثيرة حول العالم بتدريس هذه العلوم بلغاتها القوميّة كالصين مثلاً، بلْ إنّ الأمر تعدّى ذلك ليصلَ إلى الانهزاميّة الثقافيّة عند بعضِ المفكرين العرب والقول بعجز لغتنا العربيّة عن استيعاب التطوّر المستمر لهذه العلوم!!، فالحديثُ هنا يتعلّقُ بالتبعيّة الثقافيّة للغرب رغم أننا نمتلكُ في لغتنا العربيّة جميع مُقوّمات اللغة الحيّة لاستيعاب تلك العلوم والفنون، فلوْ عُدْنا بنظرةٍ فاحصةٍ سريعةٍ للقرنِ العشرين لوجدنا أنّ كثيراً من الدول العربيّة قدْ تعرضت للاستعمار الأجنبي (الإنجليزي والفرنسي)، فدولة مثل مصر كانت قد تعرضت لتجربة الاستعمارَين معاً، وعلى الرغمِ أنّ فترة الاستعمار الفرنسي كانت قصيرة (حوالي ثلاث سنوات) مقارنة بفترة الاستعمار الإنجليزي (حوالي 74عاماً) إلا إنّ أثر الاستعمار الفرنسي كان أقوى ثقافيّاً، لماذا؟، لأنّ الفرنسيّين كانوا ولا زالوا يهتمون بالثقافة قبل السياسة، ولذا نجدُ أنّ الثقافة تتصدر الأولويّة في اتفاقيّات باريس مع الدول الأخرى!، وهذا الأمرُ الذي انتبهتْ له الصينُ خلال السنوات الأخيرة، فأصبحتْ بكين تُبدي اهتماماً واسعاً بلغتها القوميّة، ففي كلِّ اتفاقيّاتها الدوليّة نجدها تحرص على إقامة معاهد الكونفوشيوس لتعليم اللغة الصينيّة حول العالم، وحول العلاقات الصينيّة الأفريقيّة نجدُ الصينَ تنتهجُ خطين متوازيين في سياستها الخارجيّة مع دول أفريقيا يرتكزان على الشراكات الاقتصاديّة والقوة الناعمة، حيث تتضمّنُ خطة القوة الناعمة حزمة الشراكات الثقافيّة التي تتأسس على نشر اللغة الصينية بين الأفارقة، ولذا نجد الصين في السنوات الأخيرة قدْ تفوّقت على الغرب في عاقاتها البينيّة مع دول أفريقيا عبر منهجيّة الثقافة واللغة أولاً ثم الشراكات الاقتصاديّة!.
لقدْ حاولَ الانجليزُ خلال القرنين الماضيين أنْ يربطوا مفهوم العلم بلغتهم الانجليزيّة في كل الثقافات العالميّة، وسعوا عبر امبراطوريتهم الإعلاميّة إلى تأصيل هذه الفكرة عبر وسائل متعددة لعلّ أبرزها الإعلام والسينما والكتب والجامعات والجوائز العالميّة مقابل إحداث الانهزاميّة الثقافية في اللغات والثقافات الأخرى!، ولذا نجدُ المنهزمين ثقافيّاً في بيئتنا العربيّة دائماً ما يُردّدون أنّ الإنجليزيّة وحدها هي لغة العلم!!، بينما لا توجد عبر التاريخ الإنساني المديد لغة بشريّة قد احتكرت العلم على الاطلاق، فكلُّ ما يتبجح به هؤلاء المنهزمون هي مجرد دعاية غربيّة للغة الإنجليزية، ففي أوروبا مثلاً، كانت اللاتينيّة هي لغة العلم والثقافة، لكنّها اليوم من عداد اللغات شبه المنقرضة، فالعلم لا يحمي اللغة من الزوال، بل على العكس تماماً، أي أنّ اللغة هي التي تحمي العلم، فاللغة العربيّة هي التي حفظت تراث الاغريق في العصور الوسطى، وعندما بدأتْ عصور النهضة في أوروبا الحديثة تُرْجم التراثُ الإغريقي واليوناني القديم من اللغة العربية التي اتخذت صفة الوسيط الزمني بين العهدين الإغريقي القديم وعصر النّهضة الحديث، فاللغة إذاً هي التي تحمي العلم من الانقراض والتلاشي وليس العكس، فالحديثُ عنْها لا يمثلُ الاعتراض على اللغة الإنجليزية كلغة عالميّة نجحت في تسويق ذاتها وإثبات روحها كلغةٍ عالميّة رسميّة في كلِّ مجالات العلم والفنون، وانتشرت في كلّ أصقاع الأرض ولكنّ الحديث هنا عن لغتنا العربيّة التي تجدُ نفسها اليوم وسط صراعٍ ثقافيٍّ وجوديٍّ مع اللغات الأخرى، فلوْ تحدّثنا اليوم عن مجال التقنية والتكنولوجيا فسنجدُ أنّ الكثيرّ من التطبيقات التقنيّة التي تتوفرُ في عالم الأجهزة الذكيّة الحديثة تخلو من وجود اللغة العربيّة أحياناً، وفي المقابل سنجدُ حضوراً غريباً للغاتٍ أخرى لا ترقى في محتواها وضخامتها وعدد مستخدميها إلى مستوى العربيّة!، وهذه من الأمور التي يندى لها الجبين!.
يقول الدكتور مصطفي الفقي: إن هناك تنافساً ظاهراً وصراعاً خفياً بين الانجليز والفرنسيّين على نشر لغاتهم بين المجتمعات البشريّة الأخرى ومنها الدول العربيّة، فالفرنسيّون مثلاً يرون بأنّ التقدم التكنولوجى قد أضاف عليهم عبئًا سلبيًا يتمثل فى ثورة الاتصالات والطفرة الهائلة فى مجال التواصل الاجتماعى معترفين بأنّ لغة الكمبيوتر الأولى هى الإنجليزيّة، بينما تستأثرُ الثقافة الفرانكفونيّة (الفرنسيّة) بأنها لغة الفلسفة والفكر والأدب، لذلك فإنّ الخلاف الذى يثور بين باريس وواشنطن منْ حينٍ لآخر ليس خلافًا سياسيًا محضاً بقدر ما هو خلاف ثقافى وفكرى له جذوره الضاربة فى أعماق التاريخ الأوروبى وتواصله مع العالم الجديد الغربى الأطلنطي!!، ويرجعُ الفضل في انتباه الفرنسيين لخطورة الانهزاميّة الثقافيّة أمام الأمريكان والانجليز إلى شخصيّةٍ سياسيّةٍ شامخةٍ وقامةٍ عاليةٍ شكلاً وموضوعاً في التاريخ الفرنسي الحديث، ويقصدُ الدكتور مصطفى بذلك الرئيس السّابق شارل ديجول الذى حاول تجسيد شخصيّة فرنسا فى مراحل تاريخها الصعبة بعيداً عن الانهزاميّة الثقافيّة أمام الولايات المتحدة، سواءً أثناء الاحتلال النازى أوْ فى أزمة الجزائر، فكان ديجول هو المنقذ فى الحالتين لباريس وهو ضمير فرنسا الثقافي، كما أنه أيضاً هو الذى جعل لبلاده شخصيّة تتمتع باستقلالٍ نسبىٍّ فى المواقف تجاه الأزمات العالميّة والمشكلات الدوليّة، لذلك فإنّه من الصعب الحديث عنْ طبيعة علاقة فرنسا بالسياسة الأمريكيّة دون الحديث عن حقيقة الصراع اللغوي الثقافي بينهما، فللقارئ الكريم أنْ يتخيل طبيعة الصراعات الثقافية واللغوية داخل الغرب نفسه، وتحديداً التنافس الثقافي واللغوي بين الفرانكفونية (الفرنسيّة) والانجلونية (الإنجليزية)، وكذلك الصراع الثقافي التقليدي بين الغرب من جهة، وبين الشرق التي تحاول الكونفوشوسيّة (الصينية) أن تكون الممثل الرئيسي له!!.
كلُّ هذه القراءات الثقافيّة تجعلنا نؤمنُ بقدراتِ ثقافتنا ولغتنا العربيّة في الصمود أمام كل هذه التحديّات العالميّة وأنْ ندعمْ كلَّ محاولات التطوير خصوصاً في المجال التقني حتى لا نقع في فخّ الانهزاميّة الثقافيّة، ولا سيّما أنّ لدينا لغة عظيمة وثريّة تمتلك بجميع المقاييس كلّ مقوّمات الحضور الثقافي العالمي، ولعلّ من الأهميّة الحديث عن ريادة الفكر الثقافي في معاجم اللغات البشريّة، فسنجدُ أنّ فكرة المعاجم اللغويّة تعدُّ ريادة عربية خالصة، فأول معجم لغوي هو الذي ابتكره عالم اللغة الخليل بن أحمد الفراهيدي قبل أكثر من ألف عام من تدشين أول معجم لغوي للانجليزية على يد عالم اللغة الإنجليزية بجامعة اكسفورد البروفيسور جيمس موراي عام 1879م، فنحن أمام تاريخ عميق وهوية مثقلة بالاعتزاز، أمّا الأمر الإيجابي حول اللغة العربية فيكمنُ في كونها لغة الإسلام، ولغة القرآن الكريم، ومع انتشار الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، نجد تزايد أعداد المتحدثين باللغة العربية كلغة ثانية بجوار لغاتهم الأم، فهي اللغة الثانية عند مسلمي الهند ودول جنوب شرق آسيا، وكذلك الحال في دول شرق أفريقيا، وكل المسلمين في أصقاع العالم، بالإضافة إلى تزايد الاهتمام بها في دول تُبدي لها اهتماماً خاصاً مثل روسيا وكوريا الجنوبية واريتريا وتشاد.
وخاتمة القول: كثير من علماء اللغة يصفون اللغات البشرية بأنّها حياة لشعوبها، وهي بالفعل كذلك، فمن خلال اللغة تتنفس الشعوب هويتها وثقافتها، وفي لغتنا العربية هي دينٌ أيضاً (إنّا نحنُ نزلنا الذكرَ وإنّا له حافظون)، وهذا من إعجاز القرآن الكريم عندما نرى اللغة العربية شامخة وصامدة حتى اليوم في ظل كل هذه الصراعات الثقافية، وهنا لا بدّ أنْ يأخذنا الحديث إلى أهمّ المراكز العربيّة الجبّارة في خدمة اللغة العربية، وأعني مجمع الملك سلمان للغة العربية، هذا الصرح العلمي المنيف الذي تحوّل خلال فترةٍ يسيرةٍ من الزمن إلى المرجعيّة العلميّة الأولى على المستوى العالمي فيما يتعلّق باللغة العربيّة وعلومها، فهو يقدم اسهاماتٍ جليلة في تعزيز دور اللغة العربيّة إقليمياً وعالميّاً، وإبراز قيمتها المعبّرة عن العمق اللغوي للثقافة العربية والإسلاميّة، وله كذلك خدمات عظيمة تستحق الإشادة فيما يتعلق بجهوده في الاستفادة من التطور التقني لخدمة اللغة العربية وعلومها المختلفة.