د. شاهر النهاري
في اليوم العالمي السنوي للغة العربية، نسمع ونرى الكثير من الاحتفالات ومظاهر الفخر، والتعالي على مكانة اللغات الأخرى، ونحتفل في الأروقة الثقافية بالعودة للماضي، وبأشكال تزيِّن وترقع الواقع.
لغتنا الأم تعاني إن كنا نَصدُق مع أنفسنا، وهي تحتاج منا لوقفة وعي، أكثر من مجاملات وتمرير احتفالات ورسم ذكرى، بل بمكاشفة للنفس أمام مرآة التاريخ وتبين حالنا نحن أصحابها.
ولعل أكثر ما يوجع في هذه المناسبة أن اللغة العربية، على عظمتها، لم تُخذَل من الخارج بقدر ما خُذلت من مستخدميها.
خذلها العرب حين لم يستطيعوا مواكبة العصور، ولم ينتجوا من العلوم والمعارف والصناعات والثقافات ما يجعل لغتهم حيَّة مفصلية قادرة على التجدد من داخلها، والتأثير في غيرها، فتركوها جسداً متضخماً بالمفردات الأجنبية والمحورة والدخيلة، ومتوجعة منهكة بموجات التعريب المتعثر البعيد عن الشارع، وهي تحاول الإمساك بلغات علمية وتقنية لا تُصنع في بيئتها، بل تصل إليها جاهزة من خلف حجب المعرفة، تُستنسخ أو تُترجم أو تُضاهي دون روح.
هذه اللغة، التي استطاعت في الماضي أن تشارك في ولادة المصطلحات العلمية والفلكية والطبية، أصبحت اليوم في ذيل الركب؛ تنتظر اختراعات الآخرين لتبتكر لها المسميات، وتعجز كثيراً عن إيجاد المسمى العربي نظير عظم ما تواجه به من سيل الابتكارات التي تنهال من كل ثقافة ومكان.
ولو كان العرب اليوم في أحسن أحوالهم، منتجين للعلم، صانعين للتقنيات، محركين للثقافات، لكانت العربية هي الأم المانحة لا المتلقية المستجدية، والمُسَمِّية لا المتسَمّاة.
لكننا، ومقولة الحق واجب قولها، نرزح في مؤخرة الأمم علمياً وتقنياً وانفتاحاً فكرياً، مستهلكين، وبالتالي فإن لغتنا تقف مكبلة خلفنا، لا تتقدم إلا بقدر ما يسمح به مجال القص واللصق.
عجز جلي أدى إلى تشويهات لغوية واسعة: فالعربية التي كانت لغة فصيحة قادرة على التعبير عن أدق المعاني، أصبحت لغة هجينة في كثير من سياقاتها، وألسنة براعمها الصغار، ويزيدها بعداً وجود الأجانب بألسنة تزيدها تكسيراً ووهناً.
ما نسمعه في الشارع والإعلام ومواقع التواصل، وما ينطق به شباب اليوم في مختلف الدول العربية معوجاً، وليس بعربية فصحى، ولا حتى قريبة منها، بل خليط لغوي تتناثر في محيطه الكلمات الأجنبية، وتتشكَّل بنياته على إيقاع عولمة لغوية لا تترك حيزاً للتأصيل.
حتى لهجات العرب، التي كانت امتداداً طبيعياً للفصحى، أصبحت اليوم مستودعاً للاقتباس، وأكثر بعداً عن الجذور التي استمدت منها حكمتها وبلاغتها يوماً.
والأمر يتعلَّق أيضاً بضعف التعليم، فكان من المستحيل مجاراة المناهج المستوردة دون جموح للغات أخرى، وهذا يتعلَّق بالهوية اللغوية نفسها، المتحوصلة، الرافضة للحركة.
فالعربية اليوم ليست كل شيء في خطابنا اليومي؛ هي جزء متناثر بين كلمات أعجمية، ومصطلحات مستوردة، وتراكيب متكسرة تبتعد شيئاً فشيئاً عن قواعد اللغة الأم، بل وتفاخر بما تضيفه لها من مصطلحات أجنبية، يستدل بها المغترون ظاهرياً على عمق ثقافة!
وهذا جزء من مأساة صامتة: لغة نحتفل بها سنوياً بينما نكاد لا نستخدمها كما ينبغي، ولغة نزعم تمجيدها بينما نسمح يومياً بتقزيم مستقبلها وتضخيم شكلها، حتى أصبحت مكتظة بالمفردات أكثر مما هي غنية بعمق وأصالة المعاني.
لقد كانت العربية في بعض مراحل الماضي لغة تصنع المعرفة.
فكانت مخابرها هي التي تسمي بعض الكواكب والنجوم، وتبدع في وضع المسميات والمصطلحات الطبية والفلسفية والعلمية والحرفية، وتقدم للعالم مناهج تفكير كاملة.
أما اليوم، فإنها تتحوصل على خداع علم الكلام، وضيق الفكر، وحتى مؤسساتنا اللغوية لا تفعل سوى مطاردة ما ينتجه غيرنا، حين نحاول تعريب مصطلحات لا جذور لها في ثقافتنا، ونستورد نماذج لغوية من بيئات أخرى، ثم نتساءل لماذا لا تستقيم العربية مع العلم الحديث، ولماذا تبدو غير قادرة على مواكبة العصر!
والجواب واضح، فاللغة لا تواكب عصراً يبتعد عنها، ولا يشارك أهلها في صنعه.
العربية اليوم ثابتة من حيث الذكريات، ولكنها متورمة من حيث المفردات، ضعيفة من حيث الدور.
وقوة اللغة لا تُقاس بوفرة المرادفات ولا بضخامة المعاجم؛ بل تُقاس بقدرتها على التعبير عن العلوم الدقيقة والاختراعات المعاصرة والمعاني البازغة في الفكر الحر والفلسفة والتقنية بكل وضوح.
يُقال إن العربية تملك ثلاثة عشر مليون مفردة، وهذا قد يبدو رقماً مهيباً يدعو البعض للفخر، ولكنه يصبح عبئاً وعجزا حينما نحتاج إلى لغة فاعلة حاسمة لا تحتمل تعدد وتشتيت المرادفات والتأويلات.
العلم لا يقبل أن تكون للسيف مئة كلمة، ولا للحب ألف، ولا لمفهوم علمي واحد عشرات الصيغ، فالدقة مطلوبة تقصر الطريق للمفهوم والمطلوب إثباته.
ولذلك فإن الترادف الذي يُعد من جماليات العربية يصبح في سياق العلم عيباً لا ميزة، ويعرقل بناء وحفظ وتمييز لغة أصيلة دقيقة تُكتب بها القوانين والمعايير ومناهج الرياضيات والتقنية الحديثة دون لبس.
هذه هي الحقيقة المرة، التي قد لا يرضى بها بعض الغيورين على اللغة: لقد أصبحت العربية غير دالة على المعنى الدقيق، ومستهلِكة أكثر منها مُنتِجة، مستوردة أكثر منها صانعة.
ومهما احتفلنا بها، وطبعنا الكتب، وأقمنا الأمسيات، وأطلقنا الأشعار فإن هذا التفاعل الوقتي لن يمنحها قدرة جديدة على الحياة، طالما كنا عاجزين عن إنتاج علم يقف على أرضها.
اللغة لا تُحمى بالقصائد والخطب فقط، بل تُحمى بالمختبرات، والمصانع، والمراصد، وجسارة السؤال العلمي الحر، وجرأة وقدرة الاختراع.
وما لم يتحول العالم العربي إلى فضاء معرفي حقيقي منتج للعلوم، ستظل العربية لغة تاريخية مبهرة، لكنها لغة تنتهك كل يوم، وتشذ، دون أن تجد من يدافع عنها إلا بالشعارات والحماسة!
المطلوب أن نَصّدُق مع أنفسنا، وألا نهرب من مواجهة الحقيقة، وألا ندّعي كمالاً غير موجود.
أن نواجه ضعفنا العلمي والتقني نحن، قبل أن نتهم العالم بإضعاف لغتنا.
علينا أن نعيد للعربية مكانتها الطبيعية: لغة إنتاج، لا لغة انتظار. لغة تبتكر، لا تُتَرجِم فقط. لغة قادرة على أن تكون في قلب المستقبل كما كانت في قلب الماضي.
وذلك يتطلب مشروعاً علمياً وثقافياً عربياً شاملاً، يعيد ترتيب العلاقة بين اللغة وصانعها، ويبدأ ثانية من الصفر.
فإذا نَهض الإنسان العربي بتعليمه وعلمه وصحته وعقليته وانفتاحه، نَهضت لغته، وإن ظل متقوقعاً مقلداً متخلفاً، تراجعت لغته معه.
اللغة مرآة أصحابها، والعربية اليوم تعكس تماماً ما نحن عليه من انعدام نظر، وتمسك بالقشور، وعدم مقارعة العلوم.
لكن بصيص الأمل يظل قائماً.
فهذه اللغة، رغم ما لحق بها، تظل واعدة بالقدرة على البروز مجدداً، متى ما وجد من ينهض بها، بكلية واعية تعرف الطريق، وتنتقي خطوات التصحيح والإحياء.