سليم السوطاني
يمرُّ في كل عام اليومُ الثامن من شهر كانون الأول (ديسمبر)، وهو اليوم الذي خُصِّصَ للاحتفاء باللغة العربية، إذ أقرّته منظمة «يونيسكو» يومًا عالميًا للغة العربية.
والسؤال هنا: «هل تعي المؤسسات الرسمية في الدول العربية قيمة هذه اللغة الخالدة، وتسعى إلى تمكينها وفرضها في شتى مناحي تعاملاتها»؟
مع الأسف، نتابع ندوات ولقاءات تُقام في الدول العربية، وتُدار بلغة أخرى، بحجة أن هناك بعض الشركات أو الضيوف لا يتحدثونها! لا يعني هذا أن اليوم العالمي للغة العربية يأتي لتتسابق المؤسسات إلى الاحتفاء وإظهار مكانتها، من خلال المنشورات والأمسيات التي تُقام خصيصًا للاحتفاء بهذا اليوم، وبعد أن ينقضي اليوم، تقل أهميتها وتُقدَّم عليها لغة أخرى، بحجة أنها لغة العصر!
مع كامل الاحترام لجميع اللغات الإنسانية، لست هنا أنتقص من حق تعلّم اللغات الأخرى، إذ لا بد أن نكون مطلعين على حضارات الأمم الأخرى، ولا ننفذ إليها إلا من خلال إتقان لغاتهم، ومن باب الترجمة الذي تُنقَل من خلاله العلوم والمعارف. لكن علينا ألّا نتهاون في التمسك بلغتنا وفرضها، لأن اللغة هي الهوية لكل أمة، فهي -كما تحمل موروثها الثقافي- فإنها تشكل رمزاً لهذه الأمة، فهي مرتكز انتماء أفرادها، وعروة ارتباط أفرادها وشعوبها، ولذلك علينا أن نحترمها ونجلها. ونحن عندما نقدّم لغة أخرى عليها، أو ننتقص من مكانتها، فإنما يدل هذا على أزمة وعي، وهشاشةٍ في الفكر، ونقصٍ داخل العقل العربي الذي لا يعتز بهويته، ولا يعلي من شأن اللسان العربي، بل يجعل لسانه يلوك لغات أخرى بلا مبالاة، وكأنه ليس له منتمى أو تاريخ عريق ضارب في أعماق التاريخ يتمثل بلغته التي أقرتها السماء قبل أن تقرها الأرض! والمرء مهما تمكّن من اللغات الأخرى، واتخذها وسيلة للتخاطب والتواصل، فإنه سيقف عند بابها؛ لأنه لا ينتمي إلى إرث اللغة التي تعلّمها.
اللغة العربية لغة حية؛ تنبض بالجمال في موسيقا أصواتها، وفي تعدد المترادفات في ألفاظها الموحية والتي تتميز بفروق دقيقة في ما بينها بحساسية مدهشة، وفي التراكيب التي ترتبط دلالاتها بصيغ أنساقها، وتختلف باختلافها، والعبارات الرنانة التي تطرب الآذان وتلامس القلوب، والفصاحة التي تراوح بين الجزالة واللين حيث لكل مقام مقال! ومن المحزن جدًا ألا نتحدث بها، ونستخدم العامية المطعمة بالكلمات الأجنبية من باب الزهو والخيلاء؛ بأن المتحدث يعرف أكثر من لغة!
إذا أردنا القوة للغة الأم، وتعزيز هويتها داخل نفوس أبنائها، علينا أن نرفع درجات الوعي بأهمية لغتنا، وأنها هوية وانتماء وتراث. ويبدأ نشر الوعي من داخل المدرسة، ثم الجامعات، وبقية مؤسسات المجتمع.
نحن في حاجة إلى الجميع في مشروع تعزيز الهوية هذا؛ ولا سيما الذين يملكون الأدوات والإمكانات التقنية والبحثية، لتسخير علمهم في خدمة اللغة العربية، من خلال برامج وأبحاث تساعد في ترسيخها في العقل الجمعي العربي أولاً، وزيادة الوعي بهذه اللغة الجميلة ليحسن تذوقَها أبناؤها ثانياً، وانتشارها ثالثاً. ولعل «مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية» أحد أهم المبادرات التي تصب في خدمة اللغة العربية، ونشرها، والمحافظة عليها، وتعزيز دورها في المجالات المختلفة إقليميًّا وعالميًا.
لغتنا جزء من ذاتنا، لا تقل في أهميتها عن عاداتنا وتقاليدنا التي نتمسك بها، بل هي أهم قيمة في موروثنا الثقافي، ومن حق لغتنا العربية علينا أن نحترمها قبل كل شيء، وأجزم بأننا بعد ذلك سنوليها اهتمامنا ومحبتنا، ولن تعلو لغة أخرى عليها مهما كانت الظروف. فالاحترام أولًا، وبعد ذلك ستأتي كل الأشياء التي ستعزِّز مكانةَ اللغة العربية في نفوس أبنائها.