أ.د.صالح معيض الغامدي
لعل كتابة السيرة الغيرية (وبخاصة السيرة الغيرية الأولى) تكون في أكثر الأحيان أصعب بكثير من كتابة السيرة الذاتية، لأن كاتب السيرة الذاتية يكون مرجعه الرئيس هو ذاته، أما كاتب السيرة الغيرية فتكون مراجعه مختلفة ومتنوعة وليس من السهولة بمكان الوصول إليها في كثير من الأحيان. إن كاتب السيرة الغيرية الأولى يبني هذه السيرة جملة جملة وعبارة عبارة وحدثاً حدثاً ومعلومة معلومة، ويجهد نفسه في استقراء الشخصية التي يكتب سيرتها وتحليلها ليشكّل في النهاية سردية غيرية يظن أنها هي التي تمثِّل هذه الشخصية بالموضوعية الممكنة.
كتبت هذه المقدمة بعد أن فرغت من قراءة السيرة الغيرية الاجتماعية الجميلة التي كتبتها الدكتورة عزيزة المانع عن الأميرة نورة بنت محمد بن سعود بن عبدالرحمن آل سعود، بعنوان «عند الرهان، تُعرف السوابق: الأميرة نورة بنت محمد بن سعود بن عبدالرحمن آل سعود» (دار مدارك، 2024). وقد جاءت هذه السيرة في 246 صفحة، واشتملت على مقدمة وتمهيد وخمسة فصول وخاتمة، وملاحق. وأنا أصف سيرتها هنا بأنها «غيرية اجتماعية» لأن الكاتبة ركزت في كتابة سيرة الأميرة على الأبعاد الاجتماعية في حياتها.
ناقشت الكاتبة في المقدمة أهمية التوثيق في عملية رصد التطور الذي تمر به المجتمعات عموماً والمجتمع السعودي على وجه الخصوص، ورأت أن ثمة حاجة ماسة لتدوين جهود الرواد في مجالات عدة وبخاصة في مجالات العمل التطوعي في دعم تنمية المرأة، ومنهم بطبيعة الحال الأميرة نورة، موضوع هذه السيرة.
وطرحت الكاتبة في التمهيد إشكالية قلة المصادر والمراجع التي تتحدث عن العمل الاجتماعي الخيري في المملكة بشكل عام والعمل النسائي منه على وجه التحديد. وأوردت المانع ما يشبه التاريخ الموجز عنه مركزة على العمل الاجتماعي الخيري النسائي.
أما الفصل الأول من الكتاب فقد جاء بعنوان «في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل: قراءة سيرة» وواضح من هذا العنوان الشعري الذي هو شطر بيت للمتنبي في مدح سيف الدولة أن أعمال الأميرة نورة واضحة وضوح الشمس لمن أراد أن يتعرف على جهود الأميرة في مجال العمل الاجتماعي والخيري. والقراءة التي تقدمها الدكتور عزيزة لسيرة الأميرة في هذا الفصل قراءة تستند إلى معرفة شخصية وصداقة بينها وبين الأميرة تمتد إلى أكثر من ثلاثين عاماً وإلى معلومات سيرذاتية تستقيها مباشرة من ذكريات الأميرة عن نشأتها الأولى وعن تفاصيل عملها الاجتماعي والخيري، ومن مصادر أخرى حول الأميرة وأسرتها.
وتطرح الكاتبة في هذا الفصل إشكالية مهمة واجهتها ويواجهها ربما كثير من كتَّاب السير الغيرية، وبخاصة عندما يكتبون عن الأحياء، وهي إشكالية اتهام كاتب السيرة الغيرية، كما تقول المانع «بالتملّق والنفاق متى ما كان فيما يقوله شيء من الإطراء والإعجاب.. والخشية أن تطغى عليه رغبته في حماية نفسه من أن تلتصق به التهمة، فيغمط الشخصية حقها فلا يقول عنها ما تستحق». وبعد قراءتي لهذه السيرة أستطيع القول بأن الكاتبة قد نجحت في تفادي هاتين الخشيتين واستطاعت الإبحار فوقهما بسلام، وكتبت السيرة بموضوعية إلى حد كبير، تتوافق مع الهدف الرئيس الذي وضعته لكتابة هذه السيرة، وهو توثيق سيرة الأميرة نورة وتسليط الضوء على ما لها من جهود بارزة في الخدمة الاجتماعية والعمل التطوعي التنموي الخيري، على مدى ما يزيد على ثلاثة عقود في ثلاث مناطق مختلفة من المملكة.
وفي هذا الفصل أيضاً تسرد الكاتبة «ملامح من شخصية الأميرة نورة» من خلال التركيز على أبرز سمات شخصيتها، وهي: البساطة والتواضع، والحلم والتسامح، والقرب من الناس، والحس الإنساني العالي، والإيمان بما تقوم به من أعمال اجتماعية وتطوعية، والتفاني في عملها، وتشجيع من يعمل معها وتحفيزهم، والمساندة والدعم لكل عمل خيري واجتماعي يُقام بالقول والفعل، والدعم المادي والمعنوي في المجالات الخيرية، والحس الوطني، والزهد في الظهور الإعلامي... (للمقال بقية)