إعداد - عبدالله عبدالرحمن الخفاجي
في سياقٍ تشكيليّ يتجاوز حدود العرض إلى عمق التجربة الإنسانية، افتتح جاليري مرسمي في مدينة الرياض معرضًا شخصيًا للفنان التشكيلي السوري عبدالله مراد، في محطة فنية تُعد من أبرز المحطات التي تستحضر تجربة عربية راسخة، وتعيد تقديمها ضمن سياق بصري معاصر يفتح آفاقًا جديدة للتلقي والحوار.
يأتي هذا المعرض بوصفه مساحة للاحتفاء بمسيرة إبداعية طويلة، وبمشروع تشكيلي تشكّل عبر عقود من البحث والتأمل والعمل الدؤوب، حتى غدا اسم عبدالله مراد أحد العلامات الفارقة في مسار الفن التجريدي العربي.
وفي كلمته بهذه المناسبة، قال الأستاذ عدنان الأحمد مدير جاليري مرسمي:
(يأتي هذا المعرض ليضيء فصلًا جديدًا من التجربة التشكيلية السورية والعربية عبر حضور الفنان الكبير عبدالله مراد، الذي منح اللون حياته الخاصة، وهب اللوحة مساحتها للبوح العميق، وجعل من التعبير البصري لغة تتجاوز حدود الواقع إلى تخوم الإحساس والدهشة.
على مدى عقود من العمل الدؤوب، استطاع مراد أن يشكّل هوية فنية مميزة، تقوم على تحرير اللون من صرامة الوصف، وعلى إعادة بناء الشكل بما ينسجم مع رؤيته الداخلية للعالم. في أعماله، لا ينظر إلى الأشياء كما هي، بل كما تُرى حين تعبر الذاكرة، وتتحول إلى اندفاع لوني وكتلة نابضة بالحركة والضوء.
هذا المعرض ليس مجرد عرض لأعمال فنية، بل هو رحلة في جوهر التجربة، رحلة تقود المتلقي إلى مساحات من التأمل، وتعيد تشكيل العلاقة بين العين واللون، وبين الخط والروح. إن حضور عبدالله مراد في غاليري مرسمي للفنون هو احتفاء بمسيرة إبداعية تركت أثرًا واسعًا في الفن العربي، وامتدت بروحها وجمالها إلى أجيال من الفنانين والمتلقين.
تقدم هذه الأعمال بكل تقدير لهذه التجربة العميقة، وللفنان الذي لا يكتفي برسم العالم، بل يعيد صياغته، ويقدمه لنا كما يراه بقلبه وعقله وذاكرة اللون فيه).
يضمّ المعرض عشرات الأعمال الفنية التي يعود تاريخ إنجازها إلى الفترة الممتدة بين عامي 2005 و2025، في سرد بصري يمنح الزائر فرصة نادرة لمتابعة التحولات الأسلوبية والفكرية في تجربة مراد عبر عشرين عامًا من الإنتاج المتواصل. وتكشف هذه الأعمال عن قدرة الفنان على الحفاظ على جوهر رؤيته التشكيلية، مع انفتاحه الدائم على التطوير والتجريب، سواء على مستوى البنية اللونية أو في مقاربته للعلاقة بين الخط والمساحة والفراغ.
وُلد الفنان عبدالله مراد في مدينة حمص السورية عام 1944، وهي مدينة ذات عمق حضاري وإنساني ترك أثرًا واضحًا في وعيه البصري المبكر. التحق لاحقًا بـ كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق وتخرّج فيها، ليبدأ مسيرة فنية امتدّت لعدة عقود من البحث المتواصل، أسهم خلالها في صياغة ملامح مشروع تشكيلي خاص، يقوم على التجريب العميق والانشغال بالسؤال الجمالي والإنساني معًا. ويقيم الفنان اليوم في العاصمة دمشق، حيث واصل منها حضوره الفاعل في المشهد التشكيلي السوري والعربي.
يُعدّ عبدالله مراد من روّاد الحركة التشكيلية السورية، وأحد أهم الفنانين المعاصرين الذين نجحوا في الجمع بين التجريدية والتعبيرية ضمن أسلوب متفرّد. وقد صقل عبر سنوات طويلة لغة بصرية خاصة، تقوم على الأرابيسك التجريدي، ليس بوصفه عنصرًا زخرفيًا، بل كبنية فكرية وإيقاع بصري حرّ، تتداخل فيه الخطوط والكتل اللونية لتشكّل فضاءات مفتوحة على التأمل. في أعماله، يتحرّر الشكل من التوصيف المباشر، ويتحوّل اللون إلى كيان مستقل، حامل للذاكرة والانفعال، فيما يصبح الفراغ عنصرًا بنائيًا لا يقل أهمية عن الكتلة.
عُرضت أعمال عبدالله مراد في العديد من المعارض والمراكز الثقافية في سوريا والعالم العربي وأوروبا، وحظيت بإشادة نقدية واسعة، لما تحمله من عمق تعبيري وقدرة على المزج بين الحسّ الشرقي والطرح التشكيلي المعاصر. وقد شكّل معرضه الذي أقامه في «أيام غاليري» بدمشق في مارس 2007 محطة مفصلية في مسيرته، حيث حقق نجاحًا لافتًا، تزامن مع إصدار أفرُودة فنية من 150 صفحة وثّقت أبرز أعماله التي أنجزها على مدى عشرين عامًا، في خطوة أكدت نضج التجربة ورسوخها.
وتوجد أعمال مراد اليوم ضمن مقتنيات فنية خاصة وعامة في مختلف الدول العربية والأوروبية، ما يعكس عالمية تجربته، وقدرتها على مخاطبة المتلقي بعيدًا عن الحواجز الجغرافية والثقافية. فهو فنان لا يقدّم لوحة مغلقة على معنى واحد، بل يفتح أمام المشاهد فضاءً رحبًا للتأويل، حيث تتحوّل اللوحة إلى زمن بصري، وإلى حالة وجدانية تتجاوز لحظة النظر العابرة.
لا يقف هذا المعرض عند حدود العرض أو التوثيق، بل يشكّل تجربة تأملية متكاملة، يعاد من خلالها بناء العلاقة بين المتلقي والعمل الفني. إذ تتحوّل اللوحات إلى مساحات صمت ناطق، وإلى دعوة للتفكير في الإنسان والذاكرة والزمن. ويؤكد هذا الحدث أن عبدالله مراد فنان لا يبحث عن الإدهاش السريع، بل عن الأثر العميق والباقي، وأن إبداعه لا يقوم على الإجابة الجاهزة، بقدر ما يصرّ على طرح السؤال.
إن تجربة عبدالله مراد الإبداعية، كما تتجلى في هذا المعرض، تؤكد حضوره كأحد أهم الأصوات التشكيلية السورية المعاصرة، وفنانٍ لم يتعامل مع الفن بوصفه ممارسة جمالية فحسب، بل بوصفه فعلًا إنسانيًا ومعرفيًا، يسعى من خلاله إلى إعادة صياغة العالم، وتقديمه برؤية مشبعة بالصدق، والذاكرة، ودهشة اللون، مضيفًا إلى المشهد التشكيلي العربي عمقًا هادئًا، لكنه شديد الأثر والاستمرار.
** **
إكس: AL_KHAFAJII