صالح الشادي
بينما ترقص قطرات المطر على زجاج النافذة، تتناثر الذكريات كأطياف عطرة، تعيد إلى القلب دفئا ظنَّه القلبُ غائباً.
المطرَ ليس ماءً ينزل من السماء فحسب، بل هو رسامٌ ماهر يرسم على لوحة الروح صورَ الأحبة.
أتذكر.. حينما كان الفجر يُسدل ستائره الرقيقة على تلك القرية الحنون مسقط الرأس الجميلة «قريات الملح»، كنت أتسلل كظلٍّ حالم إلى دار جدتي «أم محمد» رحمها الله. هناك، بجانب أكوام الحطب المتراصة، كانت تجلس وأمامها أرغفةٌ حارَّة كشموس صغيرة. كانت تخلط الطحين بالماء وبحنوٍّ لا يُنسى، ثم تمدُّ إليَّ، وأنا المتجمِّم بجانب النار، قطعةً من ذلك الخبز الذي صار في ذاكرتي كطعم أسطورة.
ولا يزال أنفي يعبق برائحة القهوة الصباحية، التي كانت تملأ البيت كعطرٍ يعلن بداية يومٍ جديد. وأنا طفل، ما إن أفتح عيني حتى أجد الوالدة رحمها الله في انتظاري أنا وإخوتي، تُعدُّ زادنا قبل انطلاقنا إلى المدرسة، بينما يتهادى صوت المطر خارجاً كسمفونيةٍ لحَّنها الزمن الجميل.
ويثبت في الخاطر مشهد الوالد -رحمه الله- وهو يرتدي بذلته العسكرية استعداداً للعمل. أتذكر دفء فَرْوته التي كنا نلجأ إليها عندما تشتدُّ علينا نسمات الشمال الباردة، وغفواتي وأنا منغمس في أكنافها، أسامر لهيب النار، وأستمع إلى أحاديث السمر التي تنسج خيوطاً من الحكمة.
ولا أنسى جيراننا على ضفاف الوادي الممتدِّ قرب بيتنا في الحميدية، وذلك المشهد الدافئ لعشرات بيوت الشعر، وأدخنة النيران وهي تتصاعد صباحاً كصلواتٍ شكرٍ على نعمة الدفء. والنساء منشغلاتٍ بأعمال النسيج والسدو، والخبز وخض صميل اللبن بينما قطعان الماشية تنطلق إلى مراعيها في هدوء. كانت الدروب رملية ناعمة، والحياة بسيطة عميقة، والجميع كانوا أهلاً وإخوة.
وفي المساء، كان صوت السامري يُصدح من حناجر الشباب والشيوخ، ينقل صوراً من مشاهد الحب والوفاء، وذكرياتٍ حميمية عاشها الرواة فحوَّلوها إلى أغاني تروي ظمأ الروح.
تلك الحياة البسيطة كانت مدرسةً عظيمة، منحتنا معرفةً لا تُجمع في الكتب، وحكمةً لا تُختزل في قاعات الدرس. روح التعاون، وكرم النفس، وتسامح القلوب، والرضا بما قسم الله، كانت بذوراً طيبةً زرعها الأوائل، فأنبتت شجرة الحياة التي كتب الله لنا أن نستظلَّ بفيئها.
ما أعظم ذلك الزمان.. الذي صار في الذاكرة وطناً لا يغيب، ومطراً لا ينقطع، يروي شغاف القلب كلما اشتقنا إلى الأصالة، وكلما تاقت النفس إلى عشقها الأول. إنه زمنُ الخبز الحارِّ، والقهوة المعطَّرة، ويد الجدة الحانية، واتساع الفروة الدافئة.. زمنٌ كان الجمالُ فيه عادياً، فأصبح في الذكرى أسطورياً.