د. خالد محمد الصغِّير
يشهد البحث العلمي في الجامعات السعودية في السنوات الأخيرة حراكًا غير مسبوق، يعكس طموحًا وطنيًا يتناغم مع أهداف رؤية المملكة 2030 في بناء اقتصادٍ معرفيٍّ متنوعٍ ومستدام. لم يعد البحث العلمي ترفًا أكاديميًا، أو نشاطًا نخبويًا محدود الدائرة، بل غدا ركيزةً أساسية للتنمية، ومؤشرًا على نضج الجامعات، وقدرتها على الإسهام الفاعل في صناعة المستقبل.
ولترجمة هذا التوجه الطموح إلى واقعٍ ملموس، ربطت الجامعات بين الترقيات الأكاديمية وإنتاج أعضاء هيئة التدريس البحثي، كما كثّفت جهودها لتحسين مواقعها في التصنيفات العالمية التي باتت تُعدّ معيارًا رئيسيًا للتميّز المؤسسي.
إلا أن هذا الزخم البحثي، رغم ما حققه من حضور لافت في المشهد الدولي البحثي، أفرز جدلية معقدة بين متطلبات الترقية، وضغوط التصنيف. فالباحث الجامعي يجد نفسه في مواجهة معادلة صعبة: كيف يوازن بين ضرورة النشر الأكاديمي لتحقيق الترقية، وبين السعي لتقديم أبحاث نوعية تلامس قضايا المجتمع المحلي وتلبي احتياجاته؟ وهكذا وجد كثير من الباحثين أنفسهم محاصرين بين مطرقة النشر الإجباري المتكرر، وسندان السباق المحموم لتحسين التصنيفات في بيئة أكاديمية يهيمن عليها منطق الكم على حساب النوعية والعمق.
ورغم هذه الإشكالية، لا يمكن إنكار أن السنوات الأخيرة شهدت قفزة نوعية في الأداء البحثي، تجلت في تضاعف الإنتاج العلمي البحثي وارتفاع عدد المنشورات المفهرسة عالميًا، بفضل الدعم الحكومي السخي، وبرامج التمويل والمبادرات التحفيزية. وقد انعكس هذا النمو الكمي بشكل مباشر على تحسن ملحوظ في مراكز الجامعات السعودية ضمن تصنيفات دولية مرموقة مثل QS وTimes Higher Education.
غير أن هذا التسارع في وتيرة النشر حمل معه تحديًا جوهريًا، تمثل في تحول البحث العلمي من وسيلة لتحقيق الأولويات الوطنية، ومعالجة القضايا التنموية الملحة إلى أداة تخدم مؤشرات التصنيف العالمي. فتح ضغط متطلبات الترقية تحول النشر في المجلات عالية التصنيف إلى غاية بحد ذاتها، مما دفع بعض الباحثين إلى تبني إستراتيجيات تختصر الطريق، فتكثر الدراسات المتكررة، أو السطحية سريعة النشر على حساب الأبحاث التطبيقية المتعمقة التي تتطلب جهدًا ميدانيًا، وإطارًا زمنيًا أطول. وهكذا تحول السباق المحموم نحو النشر إلى عملية مجردة أفرغت البحث العلمي من روحه الإبداعية وحولته لمجرد رصيد كمي في سجل الترقيات.
وفي خضم هذا التسارع الكمي، برزت عدة ممارسات سلبية، وأولويات غائبة عن المشهد البحثي. فقد أشار تقرير Nature Index لعام 2023 إلى أنَّ ضغوط النشر الأكاديمي في بعض الجامعات أسهمت في انتشار ما يُعرف بـ «التجزئة البحثية» (Salami Slicing)، حيث تُقسَّم الدراسة الواحدة إلى أوراق متعددة ضعيفة المحتوى. كما نبّهت دراسة حديثة في مجلة Science (مارس 2024) إلى أن التوسع في سياسات «النشر الإجباري» قد يؤدي إلى تراجع نوعية الأبحاث على مستوى العالم، لصالح كمٍّ متضخم من الأوراق السريعة النشر. وفي السياق نفسه، لا تزال ظاهرة «المجلات الافتراسية» تطرح تحديًا جديًا للمصداقية العلمية، إذ تستغل اندفاع الأكاديميين نحو الترقية والتصنيف لنشر أبحاث في منصات تفتقر إلى التحكيم الرصين، أو الأثر الحقيقي.
وفي ظل هذه الممارسات، يبرز سؤال جوهري: ما البديل؟ للإجابة على ذلك يمكن الاستئناس بتجربة جامعات رائدة عالميًا مثل MIT وStanford، التي تتبع فلسفة مغايرة تمامًا. فهي لا تتخذ من التصنيف العالمي هدفًا رئيسيًا، بل تراه نتيجة حتمية لتحقيق التميز البحثي والأكاديمي. ففي كلمة لرئيسة جامعة MIT سالي كورنبلوث (مارس 2024) أكد فيها أنَّ التصنيف «لم يكن يومًا هدفًا إستراتيجيًا، بل نتيجة طبيعية للتركيز على حل المشكلات الحقيقية، وتعزيز ثقافة الابتكار». وبالمثل، جاء في تقرير Stanford Impact 2023 أنَّ «التميز يُقاس بالأثر المجتمعي، لا بعدد المنشورات».
ويكمن جزء أساسي من الحل في تطوير النظام البيئي للبحث والتطوير بشكل متكامل يربط الجامعات بفاعلية مع القطاعين الصناعي والاستثماري. فوفقًا لتقرير وزارة التعليم لعام 2024 لا يزال إسهام القطاع الخاص في تمويل الأبحاث يشكّل أقل من 25 في المائة من إجمالي الإنفاق الوطني على البحث العلمي، مقارنة بمتوسط يتجاوز 60 في المائة في الاقتصادات المتقدمة. كما تُظهر بيانات هيئة الإحصاء السعودية (2023) أن عدد اتفاقيات الشراكة بين الجامعات والشركات المحلية ما زال محدودًا رغم المبادرات المتزايدة في مجالات الابتكار والتقنية. إنَّ تحفيز هذا القطاع - من خلال حوافز ضريبية، وشراكات إستراتيجية - يمكن أن يخلق سوقًا تنافسيًا للبحث ذي الأثر الملموس، ويعيد توجيه بوصلة الجامعات نحو أولويات التنمية الوطنية، لا متطلبات التصنيف الخارجي.
غير أن تطوير هذا النظام البيئي لا يمكن أن يكتمل دون إصلاح المنظومة الأكاديمية الداخلية التي تنظّم عمل الباحثين وآليات ترقيتهم. فالنظام السائد، الذي يربط الترقية بعدد الأبحاث المنشورة، لا يعكس دائمًا القيمة الحقيقية للإنتاج العلمي، ولا يشجع على الابتكار، أو التعاون مع القطاعات المختلفة. وفي هذا السياق، تمثل تجربة جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (KAUST) مثالًا متقدمًا؛ إذ أطلقت عام 2023 نظام تقييم متعدد الأبعاد يأخذ في الحسبان الأثر الصناعي والمجتمعي للأبحاث إلى جانب النشر الأكاديمي. وبالمثل، تبنت جامعة حمدان بن محمد الذكية في دبي (2024) نموذجًا مستلهمًا من المعايير البريطانية (REF model) يركّز على «دراسات الأثر» التي توثّق القيمة العملية للبحث في السياسات العامة والاقتصاد والمجتمع. إن تبنّي مثل هذه النماذج في الجامعات السعودية سيعيد الاعتبار إلى نوعية الأبحاث وجدواها، ويحوّل الترقية من حسبة رقمية إلى منظومة تقدّر التنوع والإبداع والأثر.
وفي الوقت نفسه تتعرض الجامعات لضغوط متزايدة لتحسين ترتيبها في التصنيفات العالمية التي تعتمد في الغالب على مؤشرات كمية مثل عدد الأبحاث، ونسب الاستشهاد، والتعاون الدولي. وقد أقرّ مدير التصنيفات في Times Higher Education، في تصريح له عام 2024 بأنَّ «التركيز المفرط على النشر الكمي قد أفرغ التصنيفات من معناها الحقيقي، وحوّلها من أداة تطوير إلى سباق بالأرقام». كما تشير بيانات QS Rankings 2024 إلى أنّ مؤشري الاقتباسات، والتعاون الدولي يشكلان أكثر من نصف وزن التقييم النهائي للجامعات، مما يفسر اندفاع بعض المؤسسات إلى عقد شراكات شكلية، أو نشر أبحاث متكررة بغرض تحسين الأرقام، لا خدمة المجتمع، أو تطوير المعرفة. ونتيجة لذلك، غالبًا ما تجد التخصصات الإنسانية والاجتماعية نفسها في موقع التهميش، لصعوبة قياس أثرها بأدوات كمية صارمة، رغم دورها المحوري في بناء الوعي الوطني والمعرفة النقدية.
وقد ترتب على هذا الوضع عدد من النتائج غير المرغوبة، أبرزها تراجع جودة الأبحاث لصالح كثرتها، وتشتت الجهود البحثية وعدم توجيهها نحو القضايا الوطنية، إلى جانب الضغوط النفسية والمهنية التي يعيشها الباحثون في سعيهم المستمر لتحقيق متطلبات الترقية والنشر. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هذه المرحلة مثّلت خطوة مهمة في رفع الوعي بأهمية البحث والنشر العلمي، ومهّدت لمرحلة جديدة من النضج المؤسسي في التعامل مع البحث كأداة للتطوير لا مجرد شرط للترقية، أو التصنيف.
اليوم، تبدو الحاجة ملحّة لإعادة التفكير في فلسفة البحث الجامعي، بحيث يُعاد التوازن بين الجودة والطموح التصنيفي. فالتركيز يجب أن يكون على الأثر الحقيقي للبحث، لا على عدد منشوراته، وعلى تطوير نظام ترقية أكثر مرونة يثمّن تنوع الإنتاج العلمي، بما في ذلك براءات الاختراع والمشروعات التطبيقية والأبحاث الميدانية. كما ينبغي أن يُنظر إلى التصنيف بوصفه نتيجة طبيعية لجودة التعليم والبحث، لا هدفًا منفصلًا يُلاحق بالأرقام والمعايير التقنية. وحتى يتحقق هذا التوازن، فإن دعم التعاون البحثي الحقيقي بين الجامعات المحلية والدولية، وتوفير بيئة بحثية محفزة، والاهتمام بالعلوم الإنسانية والاجتماعية بوصفها مكونًا أساسيًا في التنمية الثقافية والعلمية، تمثل خطوات جوهرية نحو بناء منظومة بحثية أكثر توازنًا واستدامة. إن البحث العلمي في الجامعات السعودية يقف اليوم على مفترق طرق بين طموح عالمي مشروع وضرورة وطنية ملحّة. فحين يُعاد توجيه الجهود نحو البحث النوعي الهادف، ويُمنح الباحث الثقة والدعم والحرية الأكاديمية، يمكن للجامعات السعودية أن تحقق التميز العلمي الحقيقي، لا باعتباره سباقًا في التصنيف، بل بوصفه إسهامًا واعيًا في خدمة الإنسان والمجتمع. ومتى ما تحقق ذبك ستغدو الجامعات السعودية في طليعة المؤسسات التي تصنع المعرفة من أجل الإنسان، لا من أجل الأرقام، وتُسهم بوعيٍ ومسؤولية في بناء مستقبلٍ أكثر توازنًا واستدامة.