مرفت بخاري
تتشابه العلاقات الإنسانية بمرافئ الفكر، إذ تتقاطع المشاعر بين التصديق والتكذيب، بين الثقة والريبة. غير أن بين عدم التصديق وسوء الظن مسافة دقيقة لا يراها إلا من تأمل في طبقات النفس. فالأول قد يكون ثمرة دهشة أو صدمة، أما الثاني فجرح يقطر حكمًا مسبقًا. إن الفرق بينهما هو الفرق بين الإنسان المتحير والإنسان المتهم.
عدم التصديق ليس رفضًا، بل توقفٌ مؤقت لعقلٍ يحاول أن يستوعب ما فاق حدّ التوقع. قد نسمع كلمة أو نرى فعلًا فنقف أمامه عاجزين عن تصديقه، لا لأننا نسيء الظن، بل لأن الحدث تجاوز حدود المألوف. إنها لحظة بين الوعي والذهول، تُشفى بالحجة أو بالزمن أو بعاطفة تثبت صدق القول. فعدم التصديق حالة فكرية نقية، لا تُدين ولا تبرئ، لكنها تنتظر دليلها بسلام.
أما سوء الظن فهو نية موجهة نحو الاتهام، لا تبحث عن الحقيقة بل عن الإدانة. هو موقف ينشأ من خوفٍ دفين أو تجربةٍ غادرة جعلت صاحبه يرى الظلال أكثر من الضوء.
في سوء الظن يُختصر الطريق بين الشك والعداوة، وبين الحذر والقطيعة. وصاحبه لا يكتفي بعدم التصديق، بل ينسج حول الحدث سيناريوهات من الخيانة والخذلان. وهكذا يتحول الخوف إلى عدسةٍ مشوَّهة، ترى الخطأ في كل وجه، والنية السيئة في كل فعل.
غالبًا ما يميل إلى عدم التصديق أولئك الذين جُرحوا مرة، وباتوا يخشون أن يُخدعوا، لكنهم ما زالوا يحتفظون بنقاء القلب. هم الحذرون الذين يحتاجون إلى دليلٍ لا إلى مبرر. أما الذين يغرقون في سوء الظن فهم أولئك الذين أثقلتهم الخيبات، أو اعتادوا التفسير السلبي لكل شيء. في داخلهم خوفٌ من التكرار، وشعورٌ بأن الثقة ضعف، غير أن سوء الظن لا يحمي أحدًا، بل يستهلك صاحبه ويفسد عليه صفاء روحه.
في واقعنا اليوم أصبح سوء الظن مرضًا اجتماعيًا مزمنًا. فقد جعلتنا وسائل التواصل نُصدر الأحكام قبل أن نفهم، نقرأ النوايا بين الأسطر، ونحاسب على الظلال لا على الأفعال. حتى صار «عدم التصديق» - الذي كان في أصله حذرًا مشروعًا - يبدو كفضيلة وسط هذا الضجيج الأخلاقي. لقد صار الناس يخافون من الصدق أكثر مما يخافون من الكذب، وصارت المسافة بين الشك والإدانة أقصر من المسافة بين الفهم والعذر.
ولكي نحمي أنفسنا من هذا الواقع المرير، علينا أن نحسن النية ما استطعنا، فحسن الظن لا يعني الغباء، بل ثقةً متوازنة تقوم على فهمٍ لا على سذاجة. علينا أن نُبطئ في الحكم، فالتريّث حكمة، وكثير من الحقائق تتضح بمرور الوقت لا بالحدس العاجل. علينا أن نواجه خوفنا القديم، فمن جُرح في الماضي لا يشفى بالشك، بل بالتصالح مع الذاكرة.
يجب أن نعيد للثقة معناها الإنساني، فالعلاقات لا تُبنى على اليقين التام، بل على مساحةٍ آمنة من الطمأنينة. والأهم أن نفرّق بين الحذر وسوء الظن، فالحذر عقل، أما سوء الظن فهو جرحٌ لم يُعالج بعد.
بين عدم التصديق وسوء الظن يقف الإنسان على حافة إدراكه للآخر. فإن اختار التأني أنصف، وإن اختار الاتهام خسر. الفرق بينهما ليس في الكلمات، بل في النية التي تسكن خلف النظرة. فالأول يبحث عن الحقيقة، والثاني يهرب من وجعها. وفي زمنٍ يزدحم بالوجوه والأقنعة، تظل أعظم فضيلة أن نحافظ على قلبٍ لا يصدق كل شيء.. لكنه لا يسيء الظن بأحد.
سلامٌ على تلك القلوب التي حين تُتَّهم تصمت، لا لضعفٍ، بل حفاظًا على صحبتها.
وسلامٌ على قلوبٍ أباحت لغيرها ردة الفعل وتغافلت عن سوء الفعال.
وسلامٌ على قلوبٍ وجدت الغدر والخذلان من أعزّ ناسها، ولا زالت تدعو لهم بالهداية.
وسلامٌ على قلوبٍ أحاطت نفسها ومَن تحبّ بتاج الثقة، ولم تظنّ بهم شرًّا.