د. محمد بن عبدالله آل عمرو
في ظل التحولات العميقة التي يشهدها العالم اليوم، حيث تتسارع العولمة وتتشابك الاقتصادات وتتنافس الثقافات، تبرز اللغة بوصفها أحد أهم عناصر السيادة الوطنية والهوية الحضارية، واللغة العربية، بما تحمله من تاريخ ممتد، وعمق ديني، وثراء ثقافي وبياني، تواجه تحديًا حقيقيًا يتمثل في تراجع حضورها في بعض البيئات العربية، و خاصة في سوق العمل، والمؤتمرات، والندوات، واللقاءات الرسمية، لصالح لغات أجنبية تُقدَّم أحيانًا بوصفها مرادفًا للتقدم والانفتاح.
لقد شرف الله سبحانه وتعالى اللغة العربية بأن جعلها لغة القرآن الكريم، فقال عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وقال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}. وهذا الاختيار الإلهي ليس مجرد تشريف لغوي، بل هو تكليف حضاري؛ إذ ارتبط فهم الدين، واستقامة الفكر، وسلامة المنهج بسلامة اللسان. وفي السنة النبوية تأكيد واضح لقيمة البيان، حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرًا»، وهو حديث يلفت إلى أن قوة التأثير وبناء الوعي لا تنفصل عن قوة اللغة ودقتها. وقد أدرك الصحابة هذه الحقيقة مبكرًا، فجاء في الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: «تعلّموا العربية فإنها من دينكم» وفي أثر آخر عنه رضي الله عنه: «تعلموا العربية فإنها تزيد في المروءة»
وإذا تجاوزنا الإطار الديني إلى التجارب المعاصرة، وجدنا أن الأمم الواثقة بذاتها لا تفرّط في لغتها، بل تحميها بقوانين واضحة وسياسات حازمة. ففرنسا، على سبيل المثال، أقرّت عام 1994 ما يُعرف بـ«قانون توبون»، الذي ألزم باستخدام اللغة الفرنسية في الإدارات الحكومية، والتعليم، والإعلام، والإعلانات، والمؤتمرات المهنية. وقد أكدت وزارة الثقافة الفرنسية والمجلس الدستوري أن هذا القانون لا يهدف إلى الانغلاق، بل إلى حماية الهوية اللغوية وضمان وحدة الخطاب العام، مع استمرار الانفتاح على العالم وتعلّم اللغات الأخرى.
وفي اليابان، تُظهر تقارير وزارة التعليم والثقافة والعلوم أن اللغة اليابانية هي الأساس في التعليم الجامعي والبحث العلمي، بما في ذلك العلوم التطبيقية والتقنية، مع تشجيع تعلم اللغات الأجنبية بوصفها أدوات داعمة لا بدائل. وقد أسهم هذا النهج في بناء قاعدة معرفية وطنية متينة، انعكست مباشرة على التفوق الصناعي والتكنولوجي الياباني. أما كوريا الجنوبية، فقد جعلت من حماية اللغة الكورية محورًا لسياساتها التعليمية والثقافية، وهو ما تؤكده دراسات المعهد الوطني للغة الكورية، التي تربط بين ترسيخ اللغة القومية، وتعزيز الهوية، ونمو الاقتصاد المعرفي والصناعات الإبداعية.
في المقابل، فإن تهميش اللغة العربية في بعض المجتمعات العربية يترك أثرًا سلبيًا واضحًا على الهوية والثقة بالنفس وجودة الإنتاج الفكري. فاللغة ليست مجرد وسيلة محايدة، بل هي أداة تفكير، وبها تتشكل المفاهيم وتُبنى الرؤى. وحين يُضعف المجتمع لغته، يضعف معه الإبداع، ويتراجع الأدب، ويضمر الفكر، ويغدو مستهلكًا لما ينتجه الآخرون بدل أن يكون مساهمًا فاعلًا في المعرفة الإنسانية.
إن إتقان العربية ينعكس مباشرة على جمال الثقافة وعمقها، ويُسهم في إنتاج أدبي وفكري أكثر أصالة وقدرة على التعبير عن الواقع والإنسان.
وقد عبّر حافظ إبراهيم عن هذه الحقيقة ببلاغة حين قال:
أنا البحر في أحشائه الدر كامنٌ
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
كما أن التعليم المتين باللغة الأم يرتبط ارتباطًا وثيقًا بجودة المخرجات الاقتصادية؛ إذ تشير دراسات تربوية واقتصادية إلى أن التعلم بلغة راسخة لدى المتعلم يعزز الفهم، ويرفع كفاءة الإنتاج، ويشجع الابتكار، ويُسهم في بناء اقتصاد معرفي واثق بذاته.
ومن هنا، فإن استعادة العربية لمكانتها الطبيعية في الفضاء العام ليست مسألة ثقافية فحسب، بل خيار استراتيجي يؤثر مباشرة في القوة الاقتصادية، والقدرة التنافسية، والحضور الحضاري العالمي.
إن العربية لا تعادي تعلم اللغات الأخرى، بل تدعو إلى الانفتاح الواعي والمتوازن، لكن دون أن تُزاحَم في ديارها أو تُقصى من منابرها.
فالأمم لا تسهم في الحضارة الإنسانية بأصوات مستعارة، بل بلغاتها الحية، الواثقة، القادرة على التعبير عن ذاتها. وحين نعيد للعربية اعتبارها، نعيد لأنفسنا الثقة، ونؤسس لمستقبل أكثر رسوخًا وتأثيرًا في عالم لا يحترم إلا من يحترم ذاته.