صالح الشادي
منذ سنوات ليست بالبعيدة، كان ظهور الهاتف المحمول في جيب أحدهم موضع اندهاش، بل استنكار أحياناً. كان يُنظر إليه على أنه أداة ترفٍ مقصورة على فئة محدودة، أو مجرد وسيلة اتصالٍ ثانوية تُكمل عمل الهاتف الثابت. لم يخطر ببال أحد آنذاك أن هذا الصندوق الصغير سيتحول إلى نواة تدور حولها تفاصيل حياتنا كلها، ليصبح من الحاجات الأساسية التي لا يُستغنى عنها، كالماء والهواء في عالم اليوم.
لقد جاء هذا التحول الجذري مدفوعاً بقوة الثورة التقنية والمعلوماتية التي اجتاحت العالم. فما عاد الجهاز مجرد أداة للاتصال الصوتي، بل تحول إلى مركز متعدد الوظائف: عصب العمل عن بُعد، وجسر التواصل مع الأسرة والأصدقاء عبر القارات، ومكتبة متنقلة، ومنصة للتعلم، ووسيلة للدفع، ونافذة نطل منها على الأخبار والمتغيرات العالمية في لحظة حدوثها. لقد ذاب الفاصل بين الحياة الرقمية والحياة الواقعية، وأصبح الهاتف الذكي هو النقطة التي تلتقي عنده هاتان الحياتان.
بطبيعة الحال، رافق هذا الغزو السريع مخاوف مشروعة وتساؤلات ملحة. فمن الناحية الصحية، ثار جدلٌ واسع حول تأثير الذبذبات والإشعاعات، وهي مخاوف دفعتها دراساتٌ علمية كثيرة، ما يزال بعضها قيد البحث والمراجعة. وعلى الصعيد النفسي والاجتماعي، أُثيرت تحذيرات حقيقية من أن يصبح الهاتف سبباً في العزلة، حيث يُحاصر الفرد في فقاعة رقمية، تضعف فيها الروابط الإنسانية المباشرة، ويتم استبدال الحوار العميق بتبادل الرسائل السريعة، وتضيع فيه الحدود بين أوقات العمل وأوقات الراحة.
لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن العلاقة مع هذا الجهاز أصبحت أكثر تعقيداً من مجرد علاقة إدمان أو تبعية سلبية. لقد تحول الهاتف إلى رفيق ونديم، شاهد على لحظاتنا الخاصة والعامة. فهو يحفظ لنا الذكريات في صورٍ وتسجيلات، ويذكرنا بالمواعيد، ويدلنا على الطرق، ويساعدنا في حل المشكلات اليومية. لقد أصبح امتداداً للذاكرة والإرادة. وفي عالمٍ يتسارع فيه إيقاع الحياة، ويصبح التكيف مع المتغيرات ضرورة، برز الهاتف كأداة رئيسة للبقاء والتفاعل.
التحدي الحقيقي الذي يواجهنا الآن لا يتمثل في رفض هذا الواقع الجديد أو التعلق به بشكل أعمى، بل في بناء علاقة واعية ومتوازنة معه. علاقة نستفيد فيها من إمكاناته الهائلة في تعزيز الإنتاجية والمعرفة والاتصال، دون أن يطغى على مساحتنا البشرية الخاصة. فالقدرة على إطفائه في ساعات العائلة، أو التحكم في تدفق الإشعارات التي تستنزف الانتباه، أو تخصيص أوقات للقراءة الهادئة بعيداً عن الشاشة، هي من مهارات العصر الجديدة.
ختاماً، لم يعد السؤال هل نستطيع العيش بدون الهاتف المحمول؟ فالإجابة أصبحت واضحة في واقع فرض نفسه. السؤال الأكثر أهمية هو: كيف نعيش معه؟ كيف نحوله من سيدٍ يتحكم بوقتنا واهتمامنا إلى خادمٍ أمين يحقق راحتنا وتقدمنا؟ إن مستقبل هذه العلاقة يتوقف على درجة وعينا وقدرتنا على وضع الضوابط التي تضمن أن تظل التكنولوجيا في خدمة إنسانيتنا، لا أن تطمس معالمها. لقد تجاوز الجهاز كونه مظهراً مادياً ليدخل في صميم تشكيل تجربتنا الإنسانية المعاصرة، وحري بنا أن نتعامل مع هذه المكانة بكل حكمة ومسؤولية.