د. محمد الرويلي
منذ عقود طويلة يُطرح سؤال التخلف بإلحاح، وتتعدد محاولات الإجابة عنه، حتى لم يعد مجرد سؤال فكري بقدر ما أصبح أداة تُستعمل في التنابز بين الدول، أو لتبرير التدخل في شؤونها، أو كوسيلة متكررة لجلد الذات.
ورغم كثرة تداوله، لا يزال هذا السؤال معلقًا بلا إجابة حاسمة، وتُفسَّر أسبابه من زوايا ضيقة لا تشمل كل أبعاده. فما هو التخلف؟ ومتى نقول عن دولة أو مجتمع إنه متخلف؟
قبل أن نُصدر حكمًا على أي دولة أو مجتمع بالتخلف، من البديهي أن نُعرّف التخلف أولًا، وأن نمتلك معيارًا واضحًا نتحاكم من خلاله. غير أن المتأمل في هذا المفهوم يكشف سريعًا أنه ليس سهلاً التعريف ولا يسير القياس. فهل التخلف هو تدني مستوى التعليم وانتشار الأمية؟ أم غياب البنية التحتية وهشاشة الاقتصاد؟ أم طبيعة النظام السياسي وانعدام الأمن وانتشار الحروب؟ أم البنية الثقافية وضعف الوازع الأخلاقي؟ أم تفشي المرض والبطالة والفقر؟ ومن أي زاوية ينبغي أن ننظر حتى نحكم على دولة بالتخلف أو بعدمه؟ فمن دون تحديد دقيق لما نعنيه بالتخلف، سنظل ندور في حلقة من الاجتهادات والانطباعات، لا في مسار الفهم والتحليل.
في كثير من خطابات «المفكرين» العرب، عُرِّف التخلف بأنه غياب القدرة على إنتاج المعرفة، وهو تعريف اكتسب شيوعه من مظهره المتين؛ إذ تُبرز الأمم المتقدمة على أنها تلك التي تضج مختبراتها بالبحوث، وتتراكم في سجلاتها براءات الاختراع. غير أن هذا التعريف، رغم وجاهته الظاهرية، يظل ناقصًا، بل وظالمًا لمجتمعاتنا، لأنه لا يقول الحقيقة كاملة؛ فإنتاج المعرفة، في ذاته، لا يكفي لصناعة التقدم، ولا يضمن بالضرورة تحوّله إلى واقع اقتصادي أو اجتماعي أو حضاري.
فقد رأى محمد عابد الجابري أن جوهر التخلف يكمن في بنية العقل العربي نفسها، حيث تهيمن الأعراف والموروثات على العقل النقدي.
أما عبدالله الغذامي فذهب إلى أن التخلف ليس خللًا في المعرفة والتعليم، بل سلوك جمعي يُقدّس الأشخاص على حساب العقل.
ويرى علي الوردي أن التخلف نتيجة نفاق قِيَمي بين البداوة والحضارة؛ فالمجتمع يتحدث بمثالية عما ينبغي أن يكون، لكنه واقعيًا يتمسك بموروثه، وهو ما يُفرغ أي مشروع إصلاحي من مضمونه. بينما ربط هشام شرابي وخلدون النقيب التخلف بسلطة الدولة التي تُقيّد الفرد وتمنع نشوء عقل مستقل قادر على المبادرة والمساءلة.
أما صادق جلال العظم، فقد حمّل الثقافة العربية مسؤولية تعليق إخفاقاتها على شماعات المؤامرة بدل مواجهة عللها الداخلية.
ويرى تركي الحمد أن التخلف ناتج عن غياب الوعي بالتحولات التاريخية، حيث تُحاكم المجتمعات العربية الحاضر بأدوات الماضي.
في حين يقول إبراهيم البليهي إن التخلف نتاج تعطيل ممنهج للعقل الجمعي عبر قمع السؤال، وتقديس الموروث، والخوف من الخطأ، مشددًا على أن المجتمعات المتقدمة لا تتفوق بذكاء أفرادها، بل ببيئة تسمح بالتجريب والاختلاف وتداول الأفكار بحرية.
ولو تأملنا أطروحات أغلب من تناولوا سؤال التخلف في الفكر العربي، للاحظنا مفارقة لافتة؛ فقد انطلقوا جميعًا تقريبًا إلى تفسير أسبابه قبل أن يتفقوا، أو حتى يحاولوا، تعريفه تعريفًا دقيقًا. ونتيجة لذلك لم تُنتج هذه الطروحات أكثر من خطاب إنشائي كثيف، يفتقر إلى معايير قابلة للقياس أو نماذج يمكن اختبارها أو تعديلها. وتكررت دعواتهم، بصيغ مختلفة، إلى التخلص من الموروث، أو اتهام الثقافة، أو تحميل الدين، أو الأنظمة السياسية مسؤولية التخلف، من دون تقديم إطار تحليلي يسمح بتقييم صحة هذه الادعاءات أو قياس أثرها. والمشكلة هنا ليست في الجرأة على النقد، بل في غياب أدوات القياس والتحليل؛ فالكلام الذي لا يمكن اختباره لا يمكن تطويره، ولا يصلح أن يكون قاعدة لتوجيه المجتمعات نحو التقدم.
ولذلك يصعب التعويل على هذا الخطاب بوصفه مشروعًا نهضويًا حقيقيًا، إذ يتحول في كثير من الأحيان إلى جلدٍ للذات وإعادة تدوير لاتهامات عامة لا تُنتج معرفة جديدة ولا تُسهم في حل عملي، بل إن بعض هذه الطروحات لا تعدو كونها تكراراً لأفكار المستشرقين أُعيد تدويرها على الواقع العربي من دون تمحيص منهجي أو إعادة بناء نقدي.
ولعل تقريب الفكرة يكون أوضح إذا شبّهنا قياس التخلف بقياس ارتفاع ضغط الدم. فنحن نعرف أن الضغط إذا تجاوز 140 يُعد مرتفعًا، ونستطيع قياس العوامل التي تؤدي إلى ذلك، كالتدخين وقلة الرياضة والنظام الغذائي والتوتر، بل نستطيع تحديد العامل الأكثر تأثيرًا وتوجيه العلاج نحوه. أما حين يتعلق الأمر بالتخلف، فلا نجد تعريفًا متفقًا عليه ولا مقياسًا نتحاكم إليه، ولذلك نبقى ندور في حلقة مفرغة شبيهة بتلك التي يدور فيها كثير من «مفكرينا».
إذا خرجنا من الإطار العربي، نجد أن العالم تعامل مع مسألة التقدم والتخلف بوصفها قضية قابلة للقياس لا موضوعًا للجدل الفلسفي المفتوح. فقد وضعت المؤسسات الدولية تعريفات عملية، وإن كانت نسبية، تُترجم إلى مؤشرات رقمية يمكن تتبعها ومقارنتها عبر الزمن وبين الدول. فالأمم المتحدة، على سبيل المثال، لا تسأل إن كانت الدولة «متخلفة» بالمعنى الأخلاقي أو الثقافي، بل تقيس مستوى التنمية البشرية عبر مؤشرات مثل متوسط العمر المتوقع، ومستوى التعليم، ونصيب الفرد من الدخل. ويركز البنك الدولي على الإنتاجية ونمو الدخل والفقر والقدرة على توليد القيمة الاقتصادية، بينما تقيس منظمات أخرى جودة الحوكمة، وسيادة القانون، وحرية السوق، والابتكار، وسهولة ممارسة الأعمال.
صحيح أن هذه المؤشرات ليست كاملة ولا بريئة من التحيز، لكنها تمتلك ميزة حاسمة يفتقر إليها الخطاب العربي؛ أنها قابلة للقياس والمقارنة والتعديل، ويمكن للدول أن تُقيّم سياساتها وتختبر أثر قراراتها على هذه المؤشرات بمرور الوقت. وبهذا المعنى، لم يعد التخلف حكمًا أخلاقيًا أو وصمة ثقافية، بل حالة نسبية يمكن رصدها وتحليل أسبابها والتدخل لمعالجتها.
ولعل من أبرز هذه المقاييس مؤشر التنافسية العالمي الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، الذي يمثل انتقالًا واضحًا من الخطاب الانطباعي إلى القياس المنهجي. فهذا المؤشر لا يكتفي بإطلاق الأحكام، بل يفكك أداء الدول عبر محاور متعددة تشمل جودة المؤسسات، والبنية التحتية، والاستقرار الاقتصادي، والصحة، والتعليم والمهارات، وكفاءة سوق العمل، والجاهزية التكنولوجية، والابتكار، وديناميكية الأعمال. وما يميزه أنه لا يسأل: لماذا نحن متخلفون؟ بل يسأل: أين نحن الآن؟ وفي أي محور نتقدم؟ وفي أي محور نتأخر؟ وبأي مقدار؟
وكما لا يصح ربط السعادة بالمال، فلا يصح ربط التقدم بإنتاج المعرفة فقط. فربط السعادة بالمال يحصرها في فئة محدودة من الناس، وربط التقدم بإنتاج المعرفة يحصره في عدد محدود من الدول، وكلا الربطين تبسيط مخلّ لظواهر مركبة.
إن تعريف التقدم بوصفه قدرة على إنتاج المعرفة فقط تعريف محكوم بالفشل؛ لأنه يجعل التقدم امتيازًا نادرًا، ويُبقي معظم دول العالم في خانة التخلف إلى الأبد. ولو كان هذا التعريف كافيًا، لكانت الولايات المتحدة في صدارة كل مؤشرات التقدم، فهي من أكبر منتجي المعرفة في العالم، لكنها - وفق المقاييس الدولية - ليست الأولى في كل شيء.
التعريف الأجدر بالتقدم هو القدرة على تداول المعرفة، لا إنتاجها فحسب. فالتخلف ليس فقرًا في البحث العلمي، بل فقرًا في تحويل المعرفة إلى نظام عمل، وليس غيابًا للأفكار، بل عجزًا عن تحريكها داخل مؤسسات الدولة والمجتمع. التخلف هو أن تتوقف المعرفة عند حدود إنتاجها، وأن تبقى حبيسة الجامعات والمراكز البحثية، بلا طريق إلى السوق أو السياسات أو حياة الناس.
وعند هذا المعيار، يصبح السؤال الحقيقي: هل استطاعت السعودية تداول المعرفة؟
الإجابة، وفق المؤشرات لا الانطباعات، هي: نعم. فلم تجعل السعودية التقدم رهين إنتاج المعرفة محليًا فقط، بل راهنت بوعي على تداول المعرفة الإنسانية: في استيعابها، وشرائها، وتوطينها، وتنظيمها داخل مؤسسات الدولة والاقتصاد. استثمرت مواردها في التخطيط، وبناء القدرات، واستقدام الخبرات، ونقل النماذج الناجحة، وتحويلها إلى أنظمة عمل قابلة للتنفيذ، لا إلى شعارات ثقافية أو خطابات نخبوية.
وانعكس ذلك بوضوح على جودة اقتصادها، وكفاءة مؤسساتها، وتحسن بيئة الأعمال، وتطور البنية التحتية، وارتفاع الجاهزية الرقمية، وتحسن مؤشرات الصحة والتعليم، وتنوع مصادر الدخل، وزيادة قدرة السوق على توليد القيمة. وهي نتائج يمكن رصدها وقياسها، لا الاكتفاء بوصفها.
ولذلك، حين تُقاس السعودية بمعايير التنافسية العالمية، وبمؤشرات الحوكمة، والاستقرار الاقتصادي، وديناميكية الأعمال، والابتكار، وجودة المؤسسات، فإنها لا تُصنَّف في خانة التخلف، بل تتقدم إلى مراتب متقدمة؛ إذ تحتل اليوم موقعًا يقارب المرتبة السابعة عشرة عالميًا بين قرابة مئتي دولة، وهو موقع لا يتحقق بالخطاب، ولا بالتنظير، بل بقدرة حقيقية على تداول المعرفة وتحويلها إلى أثر اقتصادي واجتماعي ملموس.
وعليه، فإن سؤال: هل السعودية دولة متخلفة؟ لا يُجاب عنه بالعودة إلى خطابات جلد الذات، ولا بترديد مقولات ثقافية فضفاضة، بل بالإجابة عن سؤال أدق وأكثر إنصافًا: هل نجحت في تداول المعرفة وتحويلها إلى جودة حياة واقتصاد ومؤسسات؟ وعند هذا المعيار، تكون الإجابة واضحة.