م. بدر بن ناصر الحمدان
الثامنة صباحاً، لا خيار سوى أن أرتدي تلك الملابس البيضاء وذلك الغطاء الأحمر، حائر في سيارتي كصباح كل يوم هل أذهب بها إلى العمل أم أتجه إلى محطة القطار، الشارع الذي عليه منزلنا أشبه بشوارع «فاماغوستا» المهجورة منذ 1974، لا أحد خارج المنزل لا أدري هل غادروا مبكراً أم أنه يوم عطلة، على أية حال ها أنا الآن في عربة القطار، أشعر بأن ثمة من يطاردني طوال الرحلة ويجلس في العربة الأخيرة، يخيّل لي أنه يرتدي سترة سوداء، وبيده صحيفة «الحياة».
المسافة بين محطة الوصول ومقرّ العمل لا تتجاوز الـ200م، لكنها كفيلة في خلق حوار طويل مع نفسي مشياً على الأقدام في محاولة لإثبات أنني في الاتجاه الصحيح، في زاوية المبنى يقبع هاربون من الباب الخلفي لتدخين السيجار وارتشاف كوب غير شرعي من القهوة، وآخرون يبحثون عن موقف لمركباتهم أو ربما لأجسادهم المنهكة من عناء الطريق، وفتاة تُطعم قطة عند الباب كل يوم، تراودني رغبة بإخبارها عن فيلم «بلاك كات» الذي يجسد قصة قطط صغيرة كبرت والتهمت أصحابها.
عند المدخل، جهاز بصمة الوجهة يمنحني شعوراً بالثقة، وأن ثمة من لا يزال يعرف من أنا ويسمح لي بالعبور إلى الردهة، يستقبلني حارس الأمن بنظراته الأكثر تفاؤلًا من كل الذين قابلتهم حتى الآن، قبل الوصول إلى مكتبي يمكنني معرفة كل ما يحدث في دائرتي بنظرة واحدة، حتى الذين طلبوا العمل عن بُعد وما زالوا نائمين، السنوات الطويلة كفيلة بمعرفة الناس، بمن فيهم سكرتيري اللطيف الذي يحاول أن يوهمني أنه موجود في المكتب وهو يجلس أمامي في عربة القطار دون أن يعلم بأني خلفه، يرمقني صانع الشاي بنظرة معتادة وأهزّ له رأسي كالمعتاد هذا الحوار يعني فقط أحضر لي كوب ماء حار وسأتولى الباقي بنفسي، لا أريد أحد يعرف ماذا أحتسي فهذا أحد أسرار البقاء مفعماً بالحياة.
الساعة الأولى لا أسمح لأحد بالدخول ولا أتحدث مع أحد كما يحدث في الساعة الأخيرة من العمل، هذه طقوس أمارسها منذ قرأت كتاب لورا ستاك (غادِر المكتب مبكرًا)، خلفية جهازي المحول عليها صورة «فيل»، هذا المخلوق الذي يشعرك بالصبر والقوّة، البدء بمراجعة البريد الوارد والرد عليه تحتاج لتركيز عال ونفس عميق، هي أقرب لتنفيذ ضربة جزاء في الوقت الإضافي، فأنت من سيحدد أين سيذهب جهد فريقك ومن سيتحكم بنتائج اليوم.
أنا أعشق «الاختصار» و»التركيز» في كل شيء، وحتى المسافات مع الآخرين، لذلك يعجبني أولئك الذين يتقنون حديث المصعد ولغة الجسد أو الإشارة هؤلاء يختزلون الكثير من الأوقات والجهود المهدرة ويجعلونك تحتفظ بطاقتك المعنوية وتوظيفها تجاه إنجاز أولوياتك وما هو مطلوب منك في الوقت المحدد.
مع نهاية اليوم، أغلق مكتبي، وأعود مع نفس الطريق، محاولاً أن أتفادى النظر إلى أي من زملاء العمل أو محادثتهم أو حتى مجاورتهم في مقعد القطار العائد إلى المنزل، فوقتهم معي قد انتهى الساعة الخامسة مساءً.
نلتقي غداً.