د.عبدالله بن موسى الطاير
الأمريكيون يجمعهم الدستور الذي يقسمون على حمايته، وعلى العيش المشترك تحت مظلته. في صيف عام 1787م، واجه واضعو دستور الولايات المتحدة الأمريكية معضلة انتخاب أو اختيار الرئيس، باذلين جهودا فكرية وقانونية ضخمة لتصور المنقلبات التي سيؤول إليها منصب الرئيس. وضعوا سيناريوهات كثيرة وبدائل عديدة لضمان فصل السلطات، وعدم هيمنة فرع على فرع، واجتهدوا في سد الذرائع التي يمكن أن تودي بالأمة بين يدي جهاز تنفيذي مستبد أو فاسد أو فوضوي. كان هاجس الملكية مسيطرا على نقاشاتهم، فأمريكا للتو انعتقت من ربقة الملكية البريطانية، وأخذت عهدا على نفسها تقديم نظام جمهوري يشكل قطيعة بائنة مع الملكية، في شكلها ومضمونها. ذلك الاحتراز قادهم في حينه إلى نظام انتخابي مختلف عن بقية دول العالم، وهو اختيار رئيس الولايات المتحدة عن طريق المجمع الانتخابي.
اقترح جيمس ويلسون من بنسلفانيا انتخاب الرئيس عن طريق التصويت الشعبي المباشر، ثم استبعدوا ذلك لأسباب، منها أن الولايات دول مستقلة، على رقعة جغرافية مترامية الأطراف ومنعزلة عن بعضها، والمعلومات المتداولة على الصعيد الوطني الأمريكي قليلة، والجهل بالسياسة، وفعالياتها متفش بين الناخبين وبخاصة في الولايات التي اشتهرت بالعبودية. فتح المجال للانتخاب المباشر سيعني عددا كبيرا من المرشحين للرئاسة، في ظل عدم وجود إعلام جماهيري يثقف الناخبين ويعرض لهم سيرة المرشح ومدى كفاءته ومناسبته للقيادة. يضاف إلى ذلك أن الولايات ذات الكثافة السكانية الكبيرة ستتمكن من الحسم، وبالتالي لا يصبح لولايات صغيرة دور في تحديد هوية الرئيس، مما يدفع برلماناتها إلى عدم التصديق على الدستور.
طرح بديل جديد وهو اختيار الرئيس من قبل الكونغرس، على اعتبار أن الكونجرس يضم ممثلي الشعب الأمريكي من جميع الولايات، إلا أن المعضلة لم تنفك تكرر نفسها، وهي الخشية على فصل السلطات. حذر عضو اللجنة غوفرنور موريس من أن المشرعين قد ينصبون رئيسا صوريا خاضعا لأهوائهم، ويجعل الفرع التنفيذي بما فيه رئيس الدولة تحت وصاية الكونجرس. البديل الثالث كان اختيار حكام الولايات أو مجالسها التشريعية للرئيس، إلا أن هذا البديل رُفض باعتباره ضيّق الأفق، ويُنذر بسلطة تنفيذية مجزأة أكثر ولاء للولايات منها للأمة الأمريكية قاطبة. برز المجمع الانتخابي بديلا متوازنا بين الناخبين والولايات، ومصمم لرفع شأن القادة الحكماء بمعزل عن تقلبات المزاج العام. اعتبروه حلا وسطا يرضي الولايات صغيرها وكبيرها، ويحقق العدالة، ويضع مصير الرئيس بيد ممثلين مستنيرين للشعب ليسوا من أعضاء الكونجرس بمجلسيه. تعين كل ولاية مجمعها الانتخابي من بين نخبها بما يكافئ عدد ممثليها في الكونجرس. الهدف هو التخلص من الديماغوجية، ولجم المرشحين الكارزماتيين، والممثلين البارعين والخطباء المفوهين، إذا لم تتوفر فيهم مقومات القيادة والحكمة والقدرة على اتخاذ القرار في جميع الظروف. اعتقد كتبة الدستور في وقتهم، وبما توفر لديهم من معطيات، أن المجاميع الانتخابية ستُرشّد بوصايتها عواطف الجماهير. ماذا لو كان بإمكانهم التنبؤ بما ستحدثه وسائل الاتصال الجماهيري، وصولا لشبكات التواصل الاجتماعي الحالية من تغيير في قواعد اللعبة السياسية؟ تخيلوا كل شيء يمكن أن يحيد بمنصب الرئاسة عن مساره الطبيعي، لكنهم لم يتصوروا أبدا أن المرشح سيأتي عليه حين من الدهر يستطيع أن يدخل إلى كل بيت عن طريق شاشة التلفزيون، وأن يخاطب كل ناخب على حدة، عن طريق الهاتف الذكي. الاحتياطات جميعها أصبحت في مهب الريح عندما تغيرت المعطيات.
مثّلت مناظرات كينيدي ونيكسون عام 1960 نقطة تحوّل؛ إذ رأى المشاهدون عبر التلفاز اتزان كينيدي الجذاب على شحوب نيكسون المتعرّق، بينما مال مستمعو الراديو إلى نيكسون. مع مرور الوقت، تحوّلت الرئاسة إلى عرض بصريّ، يُفضّل الممثلين على رجال الدولة. ضخّمت وسائل الإعلام الجماهيرية هذا التحوّل، وتلاعبت دورات الأخبار على مدار الساعة بقناعات الناخبين، وتحول التنابز بالعبارات الموجزة، والفضائح إلى ما يشبه الرصاص المتبادل بين المرشحين والموالين لهم، لتختزل السياسات المعقّدة في دراما تافهة قابلة للتداول العام. بات على الرؤساء الآن أن يتأقلموا مع بيئةٍ تنتشر فيها الزلات كالنار في الهشيم، وتطغى فيها المظاهر على النتائج، كما يتضح من كيفية تشكيل التغطية الإعلامية لتصورات الناخبين من خلال التأطير الانتقائي والإعلانات والاستطلاعات والنسب الإحصائية مما أضعف جودة القيادة لصالح من يتقنون استخدام الإعلام والشعبوية.
تأتي وسائل التواصل لتمثّل أسوأ ما يمكن أن يتصوره أصحاب فكرة المجاميع الانتخابية. وظّفت الانقسام كسلاح، وأعطت الخوارزميات الأولوية للغضب والسخط والنزعة القومية والأيديولوجية والعنصرية مما كون بيئات مُغلقة على نفسها شديدة الاستقطاب تُشوّه المشهد وتدعم التعصب والتطرف. قوضت الحوكمة التشاركية التي كان يُقدّرها واضعو الدستور، وأنتجت تحيزات برمجية، وأعطت الأولوية للشعبية الاستعراضية على حساب الكفاءة الحزبية المُشتركة، مما عمّق الانقسامات في أمةٍ كان مؤسسوها يأملون في توحيدها. فهل سيكون الدستور الأمريكي هو محطة الخلاف الحزبي القادمة؟