د. سامي بن عبدالله الدبيخي
شد انتباهنا العرض الملهم الذي قدمه رئيس «كرسي الأمير فيصل بن سلمان لأبحاث أنسنة المدن» أليخاندرو إيتشفرري في «ملتقى هيئات تطوير المناطق والمدن» 2025. كان العرض بمثابة خارطة طريق لأنسنة المدن بثلاث أدوات، هي: العمران الاجتماعي، وتصميم الفراغات العامة، والجامعة كمختبر حي لتقود الأكاديميا التحول الاجتماعي.
تم اختبار هذه الأدوات الثلاث في التجربة الكولومبية حيث انتقلت ميديلين من كونها «المدينة الأكثر عنفاً في العالم» عام 1991 إلى نموذج عالمي للأمل يستقطب السياح من كل مكان. لم يكن المفتاح في المباني المجردة، بل في مفهوم العمران الاجتماعي (Social Urbanism) الذي نفذ بين 2004 و2012 فأعاد تعريف البنية التحتية كأداة اجتماعية لا كمجرد شبكة طرق وخدمات.
فالمكتبات العامة ومحطات المترو- كيبل (Metro Cables) والمدارس والحدائق الصغيرة صُممت بجودة عالية باعتبارها غرف معيشة مفتوحة للمدينة في أكثر الأحياء هشاشة ومناطقها الأكثر احتياجاً من خلال مشاريع حضرية متكاملة تربطها شبكة نقل عام فعالة.
هذا التحول الجذري يثبت أن العمران الاجتماعي والتصميم الحضري والجامعات يمكن أن تكون أداة فعالة لتعزيز البعد الإنساني في المدينة وتحقيق العدالة الاجتماعية والأمن.
يلفت العرض إلى أن تحوّل ميديلين لم يحدث بسبب مشروع واحد، بل عبر تزاوج مشروعات حضرية متكاملة ضمن مخطط استراتيجي وإطار مؤسسي يربط المعرفة الأكاديمية بالممارسة الميدانية.
هذا يجد صداه مع ما يحدث في المدينة المنورة التي تتبني رؤية استراتيجية يكون التحدي الأساسي لها يكمن في الانتقال من مشروعات أيقونية منفصلة إلى شبكة مترابطة من الفراغات العامة اليومية وممرات مشاة مظللة وساحات أحياء وحدائق صغيرة ومسارات الوادي باعتبارها منظومة واحدة، لا كاستثمارات متفرقة. ويتجلى ذلك في إعادة تأهيل وادي العقيق وربطه بممرات مشاة وساحات عامة تحسّن المشهد الحضري وتستعيد الصلة بين الناس والطبيعة والتاريخ.
يتبلور مفهوم الأنسنة في المدينة المنورة من خلال التكيف مع سياقها الفريد ذي التراث الروحي والمناخ الجاف وديناميكيات الحج وترجمته في رؤية تجعلها مدينة هادئة صديقة للمشاة تعتمد على توسعة المساحات الخضراء وتحسين الربط بين المساجد التاريخية والأودية والأحياء السكنية، وتربط البحث الأكاديمي بالمشروعات الحقيقية في الأحياء والأودية. وفق هذا المنظور تكون أنسنة المدينة ليست مجرد بنية تحتية تُقام، بل تكامل بين الناس والطبيعة والثقافة، وتصير وسائل النقل العام ليست حلولًا للحركة والوصولية فحسب بل تدخلات مكانية تخلق ممرات خضراء مظللة وفراغات عامة تنبض حيوية وحياة.
يقدّم العرض أنسنة المدينة كمنهجية لا كمجموعة مشروعات منفصلة، وكرؤية استراتيجية تركز على الأحياء الهامشية وتربط النقل العام بالفضاءات العامة وتؤسس لحوكمة تشاركية تعيد الثقة بين مختلف الأطراف.
هذا هو جوهر الأنسنة التي تضع الإنسان في قلب العملية التخطيطية حيث يكون للجامعات دور أساسي كمختبرات عمرانية حية تقود التحول الاجتماعي بإقامة الهاكاثونات حول الحدائق الصغيرة المركزة على المجتمع وإعادة تنشيط الفراغات غير المستغلة وتعزيز القابلية للمشي وتشجيع التدخلات العمرانية الذكية.
يؤكد إتشيفرري في عرضه أن «أنسنة المدن» ليست مجرد عملية تجميل، بل هي عملية عميقة لدمج الثقافة والهوية والانتماء في صلب التخطيط الحضري.
إن التجربة المتبادلة بين تضاريس ميديلين وروحانية المدينة المنورة تقدم لنا درساً بليغاً مفاده أن أنسنة المدينة تتحقق حينما تُعطى الأولوية للإنسان وللبيئة قبل حركة المركبات وحينما تتكامل الجهود الأكاديمية مع صناع القرار لرسم مستقبل حضري مستدام مع المحافظة على الهوية الثقافية والفخر الجماعي، لتتحول المدينة إلى أماكن انتماء لا مجرد حوض للوظائف والأعمال.