إكرامُ الموتى وصيانةُ مقابر المسلمين واحترامُها من الواجبات الشرعية المعلومة؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لَأَنْ يجلسَ أحدُكم على جمرةٍ فتُحرقَ ثيابَه فتَخلُصَ إلى جلدِه؛ خيرٌ له من أن يجلسَ على قبر)) رواه مسلم، وفي أقصى شمال حِلّة الدَّلم القديمة يرقد مجموعة من أموات المسلمين من أهل البلد منذ سنة 1309هـ، فقد أصبحت البلدة ذاتَ يومٍ من أيام تلك السنة والصارخ يدعو إلى النَّفير مُنذرًا بأن جيشًا قد دَهَمَهم واجتاز بلدة نعجان شمالًا، فأسرع سُراةُ القوم إلى أسلحتهم وخرجوا خيّالةً ورَجّالة من (الدروازة) الشمالية لا يدرون مَن هذا الجيش؛ فالزمانُ كان زمانَ فتنةٍ وفُرقة، والتحم القتال رميًا بالبنادق بين نخيل المُحمّديّ شمال الدلم ووقع عدّةُ قتلى، إلّا أن الجيش المقابل كان كبيرًا؛ فلمّا رأوا أنهم لا طاقةَ لهم به وقد خرجوا سِرَاعًا على غير تعبئةٍ حملوا قتلاهم ودخلوا بهم داخل البلد وأغلقوا الأبواب وتحصّنوا بالأسوار، وكانت مقبرة الدلم حينَذاك خارج الحِلّة أو الدَّيرة، وهي المقبرة الشرقية المعروفة الآن، ولن يستطيعوا دفن القتلى فيها بطبيعة الحال وحِلّةُ البلد محصورةٌ بهذا الجيش، والجثث يسري إليها التغيُّر الذي يجري على كل ميت؛ فدفنوهم داخل البلد تحت السور الشمالي مباشرةً، ثم انتهت الحرب وتوالَى الزمان وبقيت هذه القبور معروفةً مَصُونة حتى سنة 1385هـ كما تشير الوثائق، وفي سنة 1413هـ هُدمت الحِلّة بأجمعها بعد أن هُجرت واستوحشت وانتقل غالب الناس إلى الأحياء الجديدة الحديثة والمباني المُسلّحة وتُركت هذه القبور بلا سور أو حماية، وكانت مَعالمُها قد اندرست بالكليّة إلّا أنه بقي معلومًا عند الأشياخ ممّن بقي في الدَّيْرة -وهم قليل- أنّ هاهنا (مقبرةَ حرب) كما سَمَّوْها، ومع امتداد الزمن وموت الكبار ونسيان الإنسان بدأ الصبيان يلعبون على هذه المقبرة وبدأت بعض السيارات تقف فوقها ممّا استدعى الرفع بتسويرها من ذوي هؤلاء الموتى، رحمهم الله - أو بالأحرى: من ذوي مَن بقي معروفًا من هؤلاء الموتى - وقُيّدت شهاداتُ مَن يعرف المقبرة وحدودَها من الأشياخ؛ فجُعلت (صبّاتٌ خَرَسانية) حول المقبرة بشكل عاجل سنة 1435هـ ولوحةٌ خضراء تنبيهية ما زالت شاخصةً حتى تاريخ كتابة هذا المقال مع أنها قد اصفرّت وصَدِئَت!
سنستعرض هنا في هذه الدراسة تاريخَ هذه المقبرة وخبرَها مستعينين -بعد الله سبحانه- بالمصادر الأصلية والوثائق المحلية والروايات الشفهية من العارفين، وسنَعرِضُ لِزامًا إلى تاريخ تلك الحِقبة غير المستقرة التي أُحدِثت بها هذه المقبرة، مع تعيينِ مكانِها في الحِلّة، وبيانِ حدودِها ومساحتِها، وذِكْرِ مَن دُفن بها، انتهاءً بمعاملة طلب تسويرها وانعقاد محضر رسميّ من الجهات الحكومية في المحافظة بشأن ذلك، ثم تسلُّمِ بلدية المحافظة للمعاملة وإضاعتِها، ثم العَوْدِ للرفع بمعاملةٍ جديدة؛ فإنّ معاملةَ طلبِ التسوير تاريخٌ لوحده قد ناهز خَمسَ عشرةَ سنةً الآن! رَغمَ جَلاءِ الأمور وإمضاء جميع الجهات الحكومية المَعنِيّة في المحافظة على المحضر بمن فيهم مندوب البلدية! وهل يبقى كلامٌ لمتكلم بعد وضْع لوحةٍ على المكان منذ ثِنتَي عَشرَةَ سنة؟!.
تَوطِئة تاريخيّة
تتفق المصادر بمختلف توجهاتها -حتى المُعادي منها- على أن الدولة السعودية بعثت في جزيرة العرب روحًا جديدة على جميع الصُّعُد: سياسيةٍ وثقافيةٍ واجتماعيةٍ واقتصادية؛ فقد ظلّت هذه الجزيرة في غَيبةٍ تاريخية طويلة باستثناء الحرمين الشريفين وبعض الحواضر القليلة، ومن أهم ما بعثته هذه الدولة الميمونة: اجتماع الناس على إمامٍ واحد والأمن والأمان بعد التناحُر والاقتتال.
في عهد الدولة السعودية الأولى دخل الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود الديار الحجازية -في أواخر عهد أبيه- بعد اقتتال ومنازعات مع الشريف غالب بن مُساعَد، فأحدث هذا الدخول ردة فعل عنيفة من قِبل الدولة العثمانية التي أمرت واليَها على مصر بالقضاء على هذه الدولة الناشئة دون هَوادة، يقول الإمام المؤرّخ المعاصر لهذه الأحداث محمد بن علي الشوكاني اليماني في كتابه (البدر الطالع): «وفي سنة 1217هـ دخلت بلاد أبي عريش وأشرافُها في طاعة صاحبِ نجد، ثم تزلزلت الديارُ اليمنية بذلك، واستولى أصحابُه على بعض ديار تِهامة، وجرت أمورٌ يطول شرحُها وهي الآن في سَرَيان، وقد أفردتُ ما بلغنا من ذلك في مُصنَّفٍ مستقل؛ لأن هذه الحادثة قد عمّت وطمّت وارتجفت لها أقطارُ الديارِ الشامية والمصرية والعراقية والرومية (يقصد العثمانيين) بل وسائر الديار، ولا سيما بعد دخول أصحابِ النجديّ مكةَ المشرفة» انتهى كلامه من ترجمته للشريف غالب في كتابه المذكور.
ثم سقطت الدولة السعودية الأولى سنة 1233هـ فعادت البلاد إلى التناحُر والفتن من جديد، يقول الشيخ المؤرّخ عثمان بن بشر المعاصر أيضًا لهذه الأحداث في تاريخه المعروف (عنوان المجد) في حوادث سنة 1234هـ: «ولما ارتحل الباشا من نجد (يعني إبراهيم باشا) ونزلَ رؤساءُ البلدان بالقديم في بلدانهم.. وقعتِ الحروبُ في نجد، واشتعلت فيها نار الفتن وكثُر القتل بينهم، وتقاطَعوا الأرحامَ وتذكروا الضغائنَ القديمة من الغيّ والآثام؛ فتواثَبُوا بينهم وقتلَ بعضُهم بعضًا في وسط الأسواق ونواحي البلدان» اهـ.
ثم عاد الإمام تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود فأقام الدولة السعودية الثانية واستقرت له الأمور سنة 1240هـ وأُطفِئت نيران الفتنة والتأمَت الجماعة، ومضى على سيرته ابنه الإمام فيصل وكان عهدُه عهدَ أمانٍ ورخاء سوى ما حصل من اضطراباتٍ بعد حملة إسماعيل آغا وخُرشيد باشا من سنة 1252هـ حتى 1259هـ، ثم مضى الإمام فيصل إلى رحمة الله سنة 1282هـ فعاد النظام للانخرام باقتتال ابنَيهِ الأَخَوين الإمام عبدالله بن فيصل ولي عهد أبيه، وأخيه الإمام سُعود بن فيصل الذي كان أميرًا للدلم والخرج كله في عهد أبيه، وكان مع الإمام عبدالله أخوه الأمير محمد، وكان مع الإمام سعود أبناؤه الذين استمروا في هذا الصراع بعد وفاة والدهم واتخذوا الخرج قاعدةً لهم، فهاجت الفتن مرةً أخرى ووَلّدَ هذا التفرُّق ضعفًا بطبيعة الحال، وظهرت قوة جديدة في حائل متمثّلةً في آل رَشِيد تريد خلافةَ الدولةِ السعودية في أراضيها، وبعد حوادثَ يطول شرحُها -وسيأتي ذِكرُ بعضها- سقطت الدولة السعودية الثانية سنة 1309هـ.
ومن هذه الحوادث والفتن الواقعةِ أواخرَ الدولة السعودية الثانية قيامُ أمير الرياض من قِبَل محمد بن عبدالله بن رَشِيد، وهو سالم بن سبهان الشمَّريّ، بقتل أبناء الإمام سعود بن فيصل الثلاثة في بلدة الدلم وأخْذِهِم على حِين غِرّة سنة 1305هـ، قال الشيخ المؤرّخ إبراهيم بن عيسى المعاصر لهذا في كتابه (عِقْد الدُّرر) في حوادث تلك السنة: «وفي صبيحة يوم الخميس أولَ شهرِ ذي الحجة من هذه السنة قتلوا عيال سعود الثلاثة في الخرج، وهم: محمد وسعد وعبدالله، قتلهم سالم السبهان، وكان عبدالعزيز بن سعود (أخوهم) قد ركِب من الخرج إلى حائل قبل ذلك بأيام» اهـ، وبحسب نفس المصدر فقد قبضَ الإمام عبدالرحمن بن فيصل -الذي وَرِثَ أخاه الإمام عبدالله- على الأمير سالم بن سبهان أواخر سنة 1307هـ وحبسه ومن معه في الرياض وأقام هو بها، وفي سنة 1308هـ سار أمير الجبلين محمد بن عبدالله بن رشيد وحاصر الرياض أربعين يومًا وقطع نخيلها، ثم إنهم اصطلحوا وأطلقوا له سالم بن سبهان وأصحابَه ورجع ابن رشيد إلى حائل، ثم في جُمادَى الآخرة من نفس السنة حصلت معركة (المُليداء) الشهيرة وكَسَرَ ابنُ رشيد أهلَ القصيم كسرةً كبيرة، فاستولى ابن رشيد بعدها على القصيم وعلى جميع بادية نجد، وكان الإمام عبدالرحمن بن فيصل قد خرج بجيشٍ قاصدًا القصيم؛ فلمّا بلغه الخبر عاد إلى الرياض ثم خرج منها وصارَ مع بادية العُجمان، كل هذه الحوادث متتابعةً من نفس المصدر.
نشأةُ هذه المقبرة محلِّ الدراسة
عطفًا على ما تقدّم وبعد أن خرج الإمام عبدالرحمن بن فيصل من الرياض سنة 1308هـ عَقِبَ معركة المليداء وصار مع بادية العجمان؛ عاد سنة 1309هـ بجيشٍ كبير وقصد الدلم التي كان ابن رشيد قد نَصب أميرًا عليها تابعًا له، فوقعت المعركة التي أشرنا إليها في رأس هذه المقالة ودَفن أهلُ البلد قتلاهم تحت السور الشمالي للحِلّة في المقبرة محلِّ الدراسة، ثم سَلّموا البلد إلى الإمام عبدالرحمن بعد أن استبانت الأمور؛ فأهل نجْد بالجُملة وأهل الخرج بالخصوص كان ولاؤهم منعقدًا لآلِ سُعود وقلوبهم إليهم مائلة، يقول المؤرخ ابن عيسى في نفس المصدر السابق مشيرًا لهذه المعركة ومُسطّرًا نهايات الدولة السعودية الثانية: «وفي سنة 1309هـ أقبل عبدالرحمن بن فيصل هو وإبراهيم المهنا الصالح أبا الخيل ومعهم جنودٌ كثيرة، وقصدوا بلد الدلم واستولوا عليها وأخرجوا مَن في قصرها من خُدّام الأمير محمد العبدالله بن رشيد، ثم سار منها إلى الرياض وأميرها حينئذٍ محمد الفيصل (أخوه) فدخلها بغير قتال، ثم ساروا منها إلى المحمل، وكان الأمير محمد العبدالله الرشيد حين بلغه مسيرهم قد خرج من حائل بجنوده فسار إليهم وهم على حُريملاء وهزمهم، وقتل منهم عدة رجال منهم إبراهيم المهنا، ثم سار إلى الرياض وأمر بهدم سورها... وجَعَل في الرياض أميرًا محمد آل فيصل ثم رجع إلى حائل» اهـ، وإبراهيم بن مهنا هذا هو أخو أمير بريدة حسن بن مهنا الذي أخذه ابن رشيد بعد معركة المليداء وحبسه في حائل.
تعيين مكان المقبرة مع بيان لأحياء حِلّة الدَّلَم
تقع المقبرة - كما تقدم - تحت السور أو الحامي الشمالي مباشرةً، وإلى الشمال الغربي من حِلّة الدلم في حي يُعرف بفريق السور (الصور)، وحيث إنه لا سورَ اليوم فموقعها شمالَ شرقيّ البلدية مشيًا على الأرجل.
ويَحسُنُ بنا هنا أن نقدّم وصفًا إجماليًّا لحِلّة الدلم قديمًا قبل هجرانِها في العصر الحديث ثم هدْمِها سنة 1413هـ، فنقول: الحِلّة هي ما يَحُلُّ فيها القوم، وتسمى أيضًا الدَّيْرة؛ وهي في الأصل ما استدار وأحاط بالشيء، وعند النجديين - وعند غيرهم أيضًا - يكون لكل بلدٍ حِلّة هي قاعدةُ البلد، وتحيط بها الأسوار الشاهقة المتينة وتكون بمثابة الحصن لهم يأوون إليها ولا سيّما وقت الحروب، ويتخلل سورَها أبراجٌ للحماية يرابط عليها الرُّماة (البَوَارِديّة)، وتحوي هذه الحِلّةُ الدُّورَ وبعضَ البساتين مع قصر الإمارة الذي يكون مُحَصّنًا أيضًا، أما نخيل البلد والمزارع الشاسعة فتكون خارج الحِلّة وتكون فيها دُورٌ أو قصور أيضًا ولكنهم يتركونها وقت الحرب ويلوذون بالحِلّة، فمن كان منهم له دارٌ في الحِلّة لاذَ به، ومن لم يكُنْ لاذَ بقصر الإمارة حتى تنتهي الحرب فثَمّتَ مكانٌ واسع مُهيَّأٌ لهم في القصر، وتُغلق الحِلّة كل ليلةٍ مع غَشَيان الليل وتُفتح بواباتها أو دراويزها مع الإصباح؛ وذلك حفظًا للبلد من الأعداء والسُّرّاق (الحَنشَل) ونحوِهم، وحِلّة الدَّلم المعروفة الآن بُنيت سنة 1211هـ كما تذكر التواريخ النجدية؛ وذلك بعد السيل الكبير الذي هدم الحِلّة الأقدم التي تسمى (حُلَيّة) وهي إلى الشمال من الحِلّة الحاليّة بمسافة، وتنقسم الحِلّة الجديدة - وما هيَ بجديدةٍ الآن - إلى ثلاثة أحياءٍ رئيسة، أو فِرَقٍ كما كانوا يسمونها:
1 - فريق الحَوْشة: وهو غربيُّ الحِلّة كلُّه، ويدخل فيه حي السور (الصور) حيث تقع المقبرة محلُّ الدراسة شمالًا، وسمَّوْه بالسور - فيما يظهر - لأن آخرَ ما هُدم من سور الحِلّة كان قُبالَتَه وهو الزاوية الشمالية الغربية للحِلّة؛ إذ إن سور الحِلّة هُدم على مراحلَ طويلة ولم يُهدم كله دفعة واحدة مع باقي الحِلّة سنة 1413هـ، فإنه لم يعد للأسوار حاجة منذ زمن، ويدخل في الحوشة الحي الأوسط الذي سمَّوْه بذلك بعد أن بنوا فيه المسجد الأوسط سنة 1325هـ، ويدخل في الحوشة أيضًا حي الشقراوي جنوبًا كلُّه أو أغلبُه.
2 - فريق الجامع: وهو شرق الحِلّة الجنوبيّ حيث يقع جامع البلد الكبير (جامع الملك عبدالعزيز)، وفي هذا الفريق يقع قصر الإمارة قديمًا الذي يقوم في مكانه الآن مبنى المحافظة.
3 - فريق الفَرْخة: وهو شرق الحِلّة الشماليّ كلُّه.
وهذه الفِرَق أو الأحياء السابقة نُقلت - بحسب الرواة - كما هي وبنفس أسمائها من الحِلّة الأقدم (حُلَيّة) إلى الحِلّة الجديدة هذه سنة 1211هـ كما أشرنا.
وقد زار الرحّالة البَريطاني (هاري سينت جون فيلبي) الدَّلَم سنة 1336هـ/ 1918م ووصف الحِلّة وصفًا دقيقًا، وذلك في كتابه (قلب الجزيرة العربية - سجل الأسفار والاستكشاف) في الجزء الثاني منه، ومع أنه لم يتعرض لأسماء الأحياء أو الفِرَق السابقة لكنه فصّل في غير ذلك تفصيلًا جميلًا في الصفحات (58 - 64، ط2: القاهرة، المركز القومي للترجمة)، وهذا ملخص كلامه عن الحِلّة: فقد ذَكر أنها سُداسية الشكل، وذَكر أطوال الجُدُر المحيطة بها (الأسوار) بالخطوات، وعَدَّ أربعةَ أبواب وأن الجهة الشرقية لا باب لها، وعَدَّ الأبراج، ووصف قصر الإمارة بأنه «قلعة كبيرة تحتل الركن الجنوبي الشرقي»، أما عن داخل الحِلّة فيقول: «وإطار المدينة من الداخل غايةٌ في البساطة والانتظام»، وذَكر السوق والدكاكين ثم قال: «والمكان كلُّه يوحي بالثراء والسَّعة»، وعَدَّ ستةَ مساجد في المكان.
حدود المقبرة ومساحتها
المقبرة -محلُّ الدراسة- مستطيلة الشكل، تستطيل من الغرب إلى الشرق، ويحدها من الشمال: سور الحِلّة الشمالي قديمًا، وحاليًّا رصيف يليه شارعٌ ذو مَسارين. ويحدها من الجنوب: دربٌ يبدأ صغيرًا من جهة الغرب ثم يكبر باتجاه الشرق. ويحد المقبرة غربًا: بستانٌ في الزمن القديم، وفلّة مسلّحة الآن. ويحد المقبرة شرقًا: شارعٌ - غير مُزَفَّت - عَرضُه أربعة أمتار.
وقد جرى التعدّي على الحد الجنوبي بحفر (بيّارة) أجلَّ الله القرّاء، جُلُّها في الدرب وقليلٌ منها دَخَلَ حَرَمَ المقبرة، وذلك بعد خروج اللجنة والرفع بمعاملة التسوير؛ فهل تَحَصَّلَ حافرُها على تصريح من البلدية؟! إنْ كان لم يفعل فتلكَ مصيبةٌ، وإن كان فَعَل فالمصيبةُ أعظمُ! وهَلَّا حفَر حفرتَه داخلَ دارِه؟!.
أما مساحة المقبرة فتبلغ ثلاثَمِائةٍ وأربعةً وأربعين مترًا مربّعًا (344 م2) وذلك بعد جبر الكسور، والرسم الهندسي المعتمد مرفق بمعاملة طلب التسوير.
وذَكر أحدُ شهودِ العَيان من جيران المقبرة أنه قبل سنوات غير بعيدة وبعد أحد السيول الغزيرة انهضَمَ قبران؛ فسارعَ وبعضُ مَن معَه إلى إهالة التراب عليهما، ومكان القبرين في قلب المقبرة إلى الشرق قليلًا، شَهِد بذلك سنة 1435هـ.
عِدّةُ مَن دُفن في هذه المقبرة وتعيينُهم
أما عن عدد المدفونين فيها فهو غير معروف بالضبط؛ إلّا أن بعض الرواة يفيد أنهم سبعة رجال أو ثمانية، وأرى أن العدد قريب ممّا ذَكره؛ وذلك بالنظر إلى مساحة المقبرة والوثائق؛ ففي وثيقة من وثائق محكمة الدلم مؤرخة في 29 - 11 - 1385هـ أملاها الشيخ القاضي محمد بن ردن - رحمه الله - جاء فيها الإشارة لهذه المقبرة بعبارة: «قُطيعة الأرض التي فيها عِدّة قبور».
أما عن ذِكر مَن دُفن في هذه المقبرة ممّن هو معروفٌ بعينِه؛ فالرواة والشهود لا يذكرون إلّا أن فيها رجلًا واحدًا معروفًا بعينه وهو من أسرة آل حمد المعروفة في الدلم، ثم يَهِمُ بعضٌ منهم فيظن أنه (عبدالعزيز بن محمد بن حمد) جد أسرة آل حمد جميعًا، وهذا غلط بلا شك؛ فعبدالعزيز هذا كتب وصيته سنة 1345هـ وقد انقضى زمن الحروب وحلَّ الأمنُ التامُّ - ولله الحمد - بعد حكم الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن، رحمه الله، وسببُ الوهْم هو أنّ عبدالعزيز بن حمد هذا - وهو الملقب بالجانّ - له أخبارٌ في الحروب يتناقلها بعضُ كبار السن من أهل البلد والمَعنِيّون بالأخبار والرواية خاصةً في معركة الدلم الشهيرة سنة 1320هـ بين الملك عبدالعزيز وبين ابن رشيد؛ فبناءً على ذلك ظن بعضٌ أنه هو، والصحيح أن المدفون في المقبرة هو أخوه الكبير (حمد بن محمد بن حمد) رحمه الله، وقد حدثني عمُّ والدي عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد بن حمد ساكن الصَّحْنة - رحمه الله - أن عمَّه حمدًا هذا قُتل صَبيحةَ عُرسِه في الحرب التي دارت مع جيش الإمام عبدالرحمن. انتهى كلامه، وهذا يؤكد ما ذكرناه من أن هذه الحرب كانت مفاجئة وأن أهل البلد لا يدرون من هو الجيش المقابل، وحمد هذا يكون عمًّا لَحًّا للعم عبدالله - واللَّحُّ هو الواقف أو اللزم في اللهجة الدارجة - وبالنظر في أوراق الأسرة نجد أن محمد بن حمد آل ابن علي أوصى لابنه حمد هذا بأضحية كل سنة، والوصية مؤرّخة سنة 1319هـ؛ أي قبل حرب 1320هـ، وكاتبها هو الشيخ الكاتب عبدالله بن عتيق، ثم صادق عليها الشيخ القاضي العلّامة عبدالعزيز بن باز سنة 1360هـ، رحم الله جميعهم، وحمد منقطع بطبيعة الحال ويقوم ناظر وقف آل حمد المسمى (وثّابًا) بإنفاذ الوصية وذبْح الأضحية كلَّ عام حتى تاريخه.
وقد تتبعتُ الأسر التي يشتهر أن لهم قتلى في الوقائع القديمة من أهل الدلم وحرصتُ على سؤالهم لعل أحدًا من هؤلاء القتلى - رحمهم الله - يكون مدفونًا في نفس المَوضِع فلم أظفر بشيء؛ ولكنه ظهر لي أن بعض هذه الأسر يضبط زمنَ الوفاة وفي أي واقعةٍ كانت ويقدّم الشواهد على ذلك من وثائق أو أبيات شعر ونحوها، وبعضهم الآخر يخلط بين الوقائع ولا مَلامةَ عليهم في ذلك حقيقةً؛ فهذه وقائعُ قديمة نِسبيًّا لم نشهدها، كما أن الحِقبةَ التي نتحدث عنها شهدت فتنًا ومَقاتِلَ ومعاركَ عديدةً ومتقاربة ذكرنا معظمَها؛ فمن حصار الدلم سنة 1289هـ إلى مقتل أبناء الإمام سعود في الدلم سنة 1305هـ، إلى استيلاء الإمام عبدالرحمن على البلد واستعادته من ابن رشيد سنة 1309هـ، إلى معركة الدلم الشهيرة سنة 1320هـ مع الملك عبدالعزيز ضد ابن رشيد، إضافةً إلى وقائع أخرى - في نفس الحِقبة - لم يؤرِّخ لها المؤرّخون المشهورون المعاصرون لها ولم يدوّنوها وتتعدد فيها الروايات في التفاصيل خاصةً ولكنها تتفق في أصل الخبر، ولعلَّ من أشهرها قيام قبيلة العجمان بقتل أمير ابن رشيد على الدلم وخادمِه سعد بن طُوَير ثأرًا لمقتل أبناء الإمام سعود فقد كان العجمان أصهارَهم، ويُقدَّر زمن هذا الوقعة في سنة 1307هـ.
وعلى كل حال فالهدف الأساس هو صيانةُ حُرمةِ هذه المقبرة وحفظُ حُرُماتِ المسلمين المدفونين فيها بغض النظر عن الذين فيها وفي أي واقعةٍ قُتلوا، رحمهم الله، ولا بأس بالنظر في هذه الأحداث التاريخية وروايتِها بتجرُّد ومن مَصادرها - ما وَسِعَ الإنسانَ ذلك - ففي رواية أمثالِ ذلك سَلْوةٌ وعبرة، مع مُجانَبةِ ما هو مَنهيٌّ عنه من إثارة العَصَبيات العمياء والمُفاخَرة في الأحساب.
حال المقبرة في الزمن الحديث
لمّا اندرست مَعالم القبور - كما قدّمنا - وهُدِمت الحِلّة سنة 1413هـ ثم بدأ بعض الصبيان يلعبون على المقبرة وبدأ بعض الناس - من الأجانب - يقفون عليها بسياراتهم؛ هبَّ أهل الخير والغَيرة وتواصَوا بضرورة تسويرها وحمايتها، وكان من أوائل هؤلاء جزاهم الله خيرًا: الأستاذ/ ناصر بن محمد بن دريهم مدير الإدارة في محكمة الدلم حينذاك، والأستاذ/ عبدالله ابن الشيخ عبدالرحمن بن جلّال، والأستاذ/ خالد بن عبدالرحمن بن حمد ابنُ عم كاتب هذه الأسطر، بدأ الأمر بالتوجه إلى محكمة الدلم بتاريخ 11 - 1 - 1433هـ بكتابٍ فيه المطالبة بتسوير المقبرة، وكان رئيسُها إذذاك فضيلة الشيخ د. ناصر السلامة، فأحال الكتاب شرحًا إلى بلدية الدلم لاتخاذ اللازم، ثم بدأت المعاملة تدور بين الجهات الحكومية حتى استقرت في مكتب أوقاف ومساجد الدلم التابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وهذا قبل أن تُفصل الأوقاف في هيئة مستقلة، ثم خرجتْ لجنةٌ مُشَكّلة من جميع الجهات الحكومية المَعنيّة في الدلم وبرئاسة مدير مكتب الأوقاف حينَذاك الأستاذ/ سعود بن خنين بتاريخ 13 - 8 - 1435هـ، وبحضور شاهدَين هما أكبر الشهود سِنًّا، وهما الأستاذ/ عبدالله بن جلّال - المتقدم - وإمام المسجد الأوسط الشيخ/ عبدالعزيز ابن الشيخ سعد المطوع، وقد توفي الأخير قريبًا، رحمه الله، وجرى التوقيع على المحضر من الجميع، انفضّت اللجنة ثم قام مكتب الأوقاف بتسليم المعاملة إلى بلدية الدلم بعد مدة بعد أن اتضح أن الموضوع من اختصاص البلدية وليس الأوقاف، وهنا يبدأ فصلٌ آخر.
بعد تسلُّم المعاملة من قِبل البلدية أحالوها إلى الرياض (وكالة الأراضي والقضايا)، وكنتُ شخصيًّا أتردد على البلدية وعلى مكتب الوكالة شرق الرياض كلَّ مدة لأتابع، وأُفهِمتُ من قِبلهم أن الموضوع من مَهام البلدية ومسؤوليّاتها ولا داعي للمتابعة، طال الأمر وحلّت جائحةُ (كورونا) سنة 1441هـ وسَكَنتِ الأمور وجُعلت بعض القيود على المراجعات الحضورية لكثير من الدوائر وكان من الصعوبة بمكان متابعة مثل هذه المعاملة هاتفيًّا، وبعد انفصال الجائحة تمامًا وعودة الحياة لطبيعتها ذهبتُ إلى بلدية الدلم لأتفاجأ بهم يقولون: لا أثرَ للمعاملة! أدخلوني على نائب المدير حينها المهندس/ عبدالرحمن الكعبي وكان مهذّبًا ومتعاونًا، ولم يكن عنده علم بالموضوع فعرضتُه عليه فلم يكُن هناك سبيل سوى الرفع بمعاملة جديدة، ومن حسن الحظ أني كنت أحتفظ بنُسَخ من المحاضر والوثائق المهمة، أَخَذَتِ المعاملةُ الجديدة رقمًا جديدًا هو (4500155427) بتاريخ 3 - 7 - 1445هـ وما زالت تدور منذ سنتين! ولم أُرِدْ إزعاج القارئ الكريم بمثل هذه التفاصيل، ولكني لم أرَ بُدًّا من ذِكرها باختصار حتى تكتمل الصورة.
فتوى للشيخ ابن باز بشأن قبورٍ قديمة
لمّا بدأنا الرفع والمراجعة بطلب تسوير المقبرة - محلِّ الدراسة - تكلم بعضٌ بأن المقابر إذا مضى عليها مِائةُ سنة تنتهي حُرمتها، فانطلقتُ إلى الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء جنوبَ طريق الملك فهد بالرياض وعرضتُ عليهم الأمر؛ فأفادوني بأن العملَ عندهم جارٍ على احترام المقابر حتى لو مضى عليها زمن طويل ما دامت معروفة، وأخبروني بالعودة إليهم لاستصدار فتوى في حال وجود صعوبة أو اعتراض على التسوير، ولكننا لم نواجه صعوبةً من هذا النوع ولله الحمد.
وهاهنا فتوى لحالةٍ مُشابِهة نعرضها للفائدة لمفتي عام المملكة العربية السعودية سابقًا سماحة الشيخ العلّامة الإمام/ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، رحمه الله، فقد سُئل في برنامج (نور على الدرب) السؤال التالي: «نزلتُ بموقع وبنيتُ مسكني فيه، وكان بالقرب من المنزل قبورٌ قديمة منذ مِائةٍ وخمسين سنةً كما يقال، وبمرور الأيام وتزايُد عدد الأسرة كان حتمًا علينا توسعة المسكن، وحيث إن التوسعة يُحال دونها من قِبل تلك المقبرة؛ أرجو إفادتي هل يُجيز لي الشرع إزالة هذه المقابر ودفنها في جهة أخرى أم ماذا؟ أرجو إفادتي لأني حائر بين أمرين: ضيقِ المنزل، وعِظَمِ حُرمة الموتى لدي، جزاكم الله خيرًا».
فكان جواب سماحة الشيخ ما نصُّهُ بعد البسملةِ والحمدَلَةِ والصلاةِ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما بعد: فليس لك التعرّض للقبور بل يجب عليك أن تتجنَّبَها وتحترمَها وتَحذرَ التعدّيَ عليها؛ لأنها سابقةٌ لك، فهي أحقُّ بمكانها، وأهلُها أولى بمكانها إلّا إن كانت القبور قليلةً قبرين أو ثلاثة، ففي الإمكان أن تكتب لنا حتى نكتب للمحكمة هناك وتعطيَنا الخبر الحقيقيَّ عن ذلك، أما إذا كانت قبورًا كثيرة فاجتنبها ولا تتعرّضْها بشيء؛ لأنها سابقةٌ وهي أولى بمكانها، أما قبران أو ثلاثة شاذةٌ عن القبور فاكتب لنا عنها وننظر في الأمر إن شاء الله بواسطة المحكمة التي لديكم» اهـ. ) المصدر: فتاوى نور على الدرب لابن باز 14/ 168 بعناية الشويعر.
ختامًا أتقدّم بالشكر إلى كلِّ مَن أَسْهَمَ في معاملة التسوير، وإلى كلِّ مَن تعاونَ بمعلومةٍ أو روايةٍ أو وثيقةٍ أو شهادة، وأسأل الله أن يجزيَهم خيرًا، ثم أخص بالشكر الأستاذ/ ناصر بن محمد بن دريهم الذي زودني بوثائقَ عن المقبرة من أرشيف محكمة الدلم وأسأل الله له دوام العافية، وأثَنّي بالشكر للأستاذ/ عبدالله ابن الشيخ عبدالرحمن ابن الشيخ عبدالعزيز بن جلّال لإثبات شهادته وإفادتي بما يعلم عن هذه المقبرة وعن الحِلّة وغيرها، وأدعو بالرحمة والغفران للشيخ المعمّر/ عبدالعزيز ابن الشيخ سعد بن ناصر المطوّع الذي أثبتَ الشهادةَ أيضًا وأفادني بأمورٍ قديمة من ذاكرتِه القديمة عن حِلّة الدلم، وصلى الله على سيدنا محمد.
** **
- محمد بن عبدالله بن محمد آل حمد