د. سطام بن عبدالله آل سعد
في مدننا العربية عامل خفيّ يقود كثيرًا من الفوضى التي نعيشها يوميًا؛ لا يُرى في الزحام وحده، ولا في مشكلات البنى التحتية، بل يكمن مصدره الحقيقي في طريقة اتخاذ القرار نفسها: من يبدأ أولًا حين نخطط لمدينة جديدة أو نطوّر حيًّا قائمًا؟ هل هو المخطِّط الحضري (الجغرافي)؟ أم المهندس المدني والمعماري؟ أم المقاول وميزانية مستعجلة تبحث عن تنفيذ بأي ثمن؟
وفي المدن التي تُدار بعقل التخطيط، يبدأ كل شيء بسؤال واحد: كيف نريد لهذه المدينة أن تعيش خلال العقود المقبلة؟. هنا يتقدّم المخطِّط الحضري الجغرافي، الذي يرى المدينة من الأعلى من خلال توزيع السكان، وأنماط الحركة، وفرص العمل، والبيئة، وحدود النمو. ويرسم استعمالات الأراضي، ويحدّد الكثافات، ويختار مواقع المراكز والخدمات، ويصمّم شبكة الطرق والفضاءات العامة وحدود التمدد العمراني. هذه هي العقدة الأولى التي يجب أن يلتزم بها الجميع.
بعد ذلك يأتي دور المهندس المدني على مستوى المدينة ليحوّل هذه الرؤية إلى بنية تحتية عبر طرق وجسور وأنفاق وشبكات مياه وصرف وتصريف سيول قادرة على خدمة الحاضر والمستقبل. ثم يدخل المعماري ليصمّم المباني داخل هذا الإطار الواضح كالمساكن، والمدارس، والمستشفيات، ومراكز تجارية بواجهات وهوية ومعايير راحة وإنسانية. وأخيرًا يتولى المدني الإنشائي تفاصيل التنفيذ التي تجعل هذه المباني آمنة وقابلة للحياة.
ما يحدث في كثير من مدننا هو قلب هذا التسلسل رأسًا على عقب؛ يبدأ المشروع من أرض متاحة أو رغبة استثمارية، يُستدعى المعماري ليصمّم، والمدني ليحسب، والمقاول لينفذ، ثم يُطلب من المخطِّط الحضري أن «يرتّب» النتائج: شارع جديد هنا، إشارة هناك، استثناء في الارتفاع أو الاستعمال. فيتحول التخطيط من أداة قيادة إلى أداة إسعاف متأخر، ومن عقل منظِّم إلى محاولة مستمرة لتخفيف الأضرار.
ونتائج هذا الخلل نراها يوميًا في مشاهد واضحة تبدأ بزحام مروري لا ينتهي، حيث تُوضَع مشروعات ضخمة على شوارع لا تحتمل هذا القدر من الجذب، وأحياء سكنية تعتمد كليًا على السيارة بلا نقل عام فعّال، ومدن تتمدد بلا ضابط، تلتهم الأراضي المحيطة بكثافات متدنية وخدمات متباعدة فتتحول إلى عبء اقتصادي مستمر في كلفة البنية التحتية والتشغيل والصيانة، بينما يتراجع الفضاء العام في الخلفية لصالح الطرق والمواقف، ويغدو الشارع للمركبات لا للبشر، والحدائق محدودة، والأرصفة مهمّشة، لأن التركيز انصب على نجاح المبنى منفردًا وليس على جودة المدينة ككل.
حتى الفجوات الاجتماعية والمخاطر البيئية تحمل بصمة هذا الخلل؛ فحين تُترك مواقع المشروعات الكبرى لمنطق السوق وحده، تتكوّن أحياء مكتملة الخدمات وأخرى ناقصة، فيتحول عنوان السكن إلى معيار غير عادل لجودة الحياة. ومع كل موجة أمطار، تكشف السيول عن أخطاء بناء في بطون الأودية وإغلاق لمسارات الجريان، وهي قرارات كان يمكن منعها لو كان للمخطِّط الحضري الجغرافي الكلمة الأولى لا الأخيرة.
ليست القضية صراعًا بين مخطِّط ومعماري ومدني؛ إنها في جوهرها مسألة ترتيب أدوار. فحين يمسك المخطِّط الحضري بزمام الرؤية، ويعمل المعماري والمهندس المدني داخل إطار تخطيطي واضح، تُبنى مدينة تحترم الإنسان والشارع والبيئة، وتصبح البنية التحتية أكثر كفاءة واستدامة. ما تحتاجه مدننا العربية اليوم هو احترام العلم الذي ينظّم هذا الإسمنت في هيئة مدينة قابلة للعيش؛ فإمّا أن يحكم العلم مسار العمران، أو تبقى المدن تعاني الفوضى نفسها خلف واجهاتٍ لامعة.