هدى بنت فهد المعجل
لم يعد الزمن يمضي، بل يندفع. صرنا نطارده لا لنلحق به، بل كي لا يدهسنا. كل شيء من حولنا يطالب بالعجلة: الأخبار، العمل، العلاقات، وحتى المشاعر.
أصبح البطء تهمة غير معلنة، والهدوء علامة على التأخر، كأن الإنسان فقد حقه في أن يسير على إيقاعه الخاص. في هذا السياق، يبدو الدفاع عن البطء فعلًا شجاعًا، وربما ضرورة نفسية أكثر من كونه رفاهية.
علّمتنا الثقافة الحديثة أن القيمة تُقاس بعدد المهام المنجزة، لا بعمق ما ننجز. صار الامتلاء بالأنشطة دليل نجاح، بينما التأمل يُساء فهمه بوصفه فراغًا.
غير أن السرعة، حين تتحول إلى نمط حياة دائم، تفقدنا القدرة على الفهم. نحن نمرّ على الأشياء دون أن نسكنها، نعيش الأيام كما لو كانت عناوين عابرة لا تجارب مكتملة.
البطء ليس نقيض الإنجاز، بل شرطه الخفي. حين نبطئ، نمنح عقولنا فرصة الربط، ونمنح مشاعرنا حق الاستيعاب. التفكير العميق لا يولد في العجلة، والقرارات الحكيمة لا تُصنع تحت ضغط التوقيت. حتى الإبداع، أكثر ما يزدهر في المساحات الهادئة، في تلك اللحظات التي لا يطالبنا فيها أحد بالإنتاج الفوري.
نفسيًا، تركض السرعة بنا نحو القلق. كثرة المهام، وتراكم التوقعات، والشعور الدائم بأننا متأخرون عن شيء ما، تصنع إرهاقًا داخليًا لا يُرى.
التعب هنا لا يكون جسديًا فقط، بل تعب معنى. نفقد الإحساس بالجدوى حين تصبح الحياة سباقًا بلا خط نهاية واضح. في المقابل، يمنحنا البطء فرصة لإعادة الاتصال بأنفسنا، لا بوصفنا أدوات إنجاز، بل ككائنات تشعر وتخطئ وتتعلم.
في التفاصيل اليومية، يتجلى البطء كفعل مقاومة صامت. قراءة صفحة واحدة بتأنٍ، إنجاز عمل يدوي دون استعجال، الإصغاء لشخص دون التفكير في الرد، كلها ممارسات بسيطة تعيد للوقت إنسانيته. ليست القضية في أن نفعل أقل، بل أن نحضر أكثر. أن نكون داخل اللحظة بدل أن نمرّ بها.
البطء لا يعني الانسحاب من العالم، بل التفاعل معه بوعي. هو اختيار أن نعيش الحياة من الداخل، لا من على هامشها. في زمن يقدّس السرعة، يصبح البطء إعلانًا غير مباشر عن احترام الذات، وعن الإيمان بأن المعنى لا يُلحق، بل يُبنى.
ربما آن الأوان أن نعيد النظر في علاقتنا بالوقت، لا بوصفه خصمًا، بل رفيق طريق. أن نمنح أنفسنا إذنًا بالبطء، لا لأننا عاجزون عن السرعة، بل لأننا نبحث عن حياة تُعاش، لا تُستهلَك.