عبدالوهاب الفايز
في اليمن.. حين تدلهم الأمور وتتسارع الأحداث وتتعقّد المشاهد، يرتفع الطلب على الفهم العميق، لا على الانفعال، وعلى التحليل المتجرد لا على الاصطفاف. وفي خضمّ هذا المشهد اليمني المتفجّر خلال الأسابيع الماضية، بسبب العبث والطموحات الشخصية لقيادات (المجلس الانتقالي)، تزداد صعوبة الوصول إلى رأي مستقل وسط سيل من الخطابات المتناقضة والمعلومات المضللة، وهذا يستدعي مهارة وضرورة الفرز الموضوعي.
ومن هذا المنطلق، تحضر المقارنة المؤلمة مع المشهد السوري بعد عام على سقوط نظام الأسد.
فبينما بدأ الشعب السوري رحلة شاقة حتى يلم شمله ويداوي جراحه، تمنينا تزامن الفرحتين، فرحة سورية ومعها يمنية حيث تُطوى فيها سنوات المعاناة، ويُعلن ميلاد يمن جديد: قوي بوحدة شعبه، وقادر على استعادة دولته، ومحاط بدعم صادق من أشقائه وجيرانه، ومنسجم مع حقائق الجغرافيا والتاريخ. غير أن الواقع، للأسف، ما زال أسير الانقسام وتشظي الخطاب وصراع النخب.
المتابع للنقاشات العميقة مع عدد من رجال الدولة من القيادات والرموز اليمنية ذات الخبرة والتعليم العالي يلمس قاسمًا مشتركًا بينهم: التحسّر على ضياع جيل كامل يرث اليوم أوضاعًا مأساوية.
فقد حطّم الفساد السياسي والصراعات الطائفية والقبلية اقتصاد البلاد، وبات أكثر من 82 % من اليمنيين يعانون من فقر متعدد الأبعاد لا يقتصر على انخفاض الدخل، بل يشمل الحرمان من التعليم والمياه النظيفة والصرف الصحي والخدمات الأساسية.
اقتصاديًا، شهد نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي تراجعًا بنحو 58 % منذ عام 2015، فيما أدّى التضخم الحاد والانهيار الكبير في قيمة الريال اليمني - الذي فقد أكثر من 90 % من قيمته خلال عقد - إلى تآكل القوة الشرائية للأسر، خصوصًا في المناطق الخاضعة للحكومة المعترف بها دوليًا. وتزداد الصورة قتامة مع انعدام الأمن الغذائي؛ إذ يعاني أكثر من ثلثي السكان من عدم كفاية استهلاك الغذاء. والمؤلم - في بلد الخيرات الزراعية - أن يعتمد اليمن على الواردات في نحو 90 % من احتياجاته الغذائية، ما يجعله شديد الهشاشة أمام أي اضطرابات تجارية أو أزمات إمداد.
وتفاقمت هذه المعاناة مع توقف صادرات النفط والغاز، المصدر الرئيس لإيرادات الدولة، نتيجة الصراع والهجمات على المنشآت، مما قلّص قدرة الحكومة على توفير أبسط الخدمات. في هذا السياق، تتضح خطورة أي مسار سياسي لا يضع استعادة الدولة ووحدة القرار في صدارة الأولويات.
من هنا يمكن فهم دلالات التحذيرات الصادرة عن القيادة اليمنية، وعلى رأسها رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشيد العليمي، والتي تجاوزت حدود الرسائل الإعلامية إلى مستوى إنذار استراتيجي مبكر.
فالتحذير من التصعيد لا يخاطب الداخل اليمني فقط، بل ينبه المنطقة إلى مخاطر انحراف البوصلة في توقيت لا يحتمل المغامرات السياسية، لأن المكاسب التي يُحذَّر من تبديدها ليست تفصيلًا عابرًا، بل حصيلة أثمان بشرية واقتصادية وأمنية ودبلوماسية باهظة، تحملت دول الخليج جزءًا كبيرًا منها دفاعًا عن الشرعية ووحدة اليمن.
الخطر الحقيقي اليوم لا يكمن في التهديد الحوثي وحده، بل في تشظي الخطاب داخل النخبة اليمنية. فحين تتحول الأولويات من استكمال استعادة الدولة وتثبيت مؤسساتها وتحسين معيشة الناس إلى صراعات جانبية ومشاريع فئوية أو انتهازية وتزاحم اجندات، فإن النتيجة تكون إطالة أمد الأزمة ومنح الميليشيات أفضلية استراتيجية.
تاريخ الصراعات في المنطقة يؤكد أن انقسام النخب هو الطريق الأقصر لتآكل الدولة. واليمن خير مثال، فانقسام النخبه هو الذي سهل انقلاب الحوثي واحتلال صنعاء.
من منظور إستراتيجي خليجي، لم يكن الموقف من اليمن يومًا مرتبطًا بأشخاص أو كيانات مؤقتة، بل بالدولة اليمنية الواحدة. هذا الموقف ظل ثابتًا رغم تغير السياقات، لأن المعادلة واضحة: تقسيم اليمن لا يخدم اليمنيين، ولا يخدم أمن الخليج، بل يصب مباشرة في مصلحة الحوثيين ومن يقف خلفهم.
تفكيك الصف الوطني يحوّل الصراع من مواجهة انقلاب مسلح إلى صراع داخلي مفتوح بلا نهاية.
كما أن وحدة اليمن ليست شعارًا سياسيًا أو موقفًا أخلاقيًا فحسب، بل شرط أساسي لأي مسار اقتصادي وتنموي قابل للحياة. الدول لا تعيد إعمار كيانات متشظية، ولا تستثمر في بيئات صراع دائم.
الدولة الواحدة ذات السلطة الشرعية الجامعة هي الإطار الوحيد القادر على فتح المدارس والمستشفيات، وإعادة تشغيل الموانئ، وتأمين طرق التجارة، واستعادة ثقة المجتمع الدولي.
أما المشاريع الخارجة عن هذا الإطار، مهما تنوعت عناوينها، فلا تنتج إلا اقتصاد حرب يضحي بالسلام!
لا يمكن أيضًا تجاهل أن طول أمد الحرب أفرز فئة من المستفيدين من استمرارها، يتقنون استثمار الفوضى وخلط الأوراق، ويصوّرون الدعم الإقليمي لوحدة اليمن على أنه تدخل، خدمةً لأجندات ضيقة أو مصالح شخصية. هذه الأصوات، مهما علا ضجيجها، لا تمثل وجدان الشعب اليمني، الذي همه الأكبر البقاء حيا، والعيش الكريم لا المتاجرة بالشعارات.
لقد وقفت دول الخليج بوضوح مع وحدة سوريا والعراق والسودان ولبنان، ولا يمكن أن تقبل بتقسيم اليمن، لأن القبول بالتقسيم يفتح بابًا خطيرًا لإعادة رسم الخرائط بالقوة، ويؤسس لسابقة تمسّ الأمن القومي العربي بأكمله. هذا مسار يدفع الجميع ثمنه دون استثناء.
اليمن اليوم بحاجة إلى نخبة تدرك أن اللحظة لا تحتمل المغامرات ولا التسويات الجزئية. نخبة تضع الدولة قبل الجماعة، والمصلحة الوطنية قبل الحسابات الشخصية، وتفهم أن المعركة الأساسية لم تنتهِ بعد. من هذه الزاوية، يصبح الحفاظ على وحدة الصف اليمني - داخليًا وإقليميًا - ليس خيارًا سياسيًا قابلًا للمساومة، بل ضرورة استراتيجية وواجبًا وطنيًا وأخلاقيًا، لأن البديل عن الوحدة ليس السلام، بل الفوضى المستمرة.
كمواطنين خليجيين وقفنا مع حكوماتنا وطالبناها بتقديم كل صور الدعم السياسي لوحدة اليمن، ووقفنا مع الشعب اليمني في محنته ومازلنا.
لن نلتفت إلي الأصوات النشاز الخارجة من اجماع وحكمة النخبة اليمنية التي خرجت من فساد الدولة وتبعية الأحزاب منتصرة لضميرها، وحتى لا تكون شريكا في ضياع الدولة.
أجمل ما تسمع منهم: لن ادخل التاريخ خائنا لبلادي وملعونا في التاريخ!
نعم، نعرف أن هناك (بعض) السياسيين الذين تحولوا إلى تجار حروب وازمات، ويهمهم استدامة الصراعات والمشاكل. نعم هذه حقيقة تعودت عليها بعض الشعوب وهي جزء من التاريخ المظلم للطبيعة البشرية. ووجود هؤلاء المرتزقة السياسيين لا يبرر التوقف أو التخلي عن دعم الشعب اليمني الذي دخل الان في سنوات عجاف صعبة ومجاعة محتملة في بعض مناطقه قد يترتب عليها انهيار لما تبقى من مقومات الدولة.
نؤكد مرة أخرى.. طول الحرب يوجد تعقيدات جديدة، والصراع يدخله أكثر من لاعب. واللآلالان الاتفاق على انهاء هذه الحرب هو بيدنا وبيد الدول الاقليمية التي يهمها استقرار المنطقة. ما نأمله هو عودة اليمنيين الى ذاتهم ووعيهم لانقاذ بلادهم.
الحكماء والعقلاء من الشعب اليمني عليهم ان يبادروا إلى لم الشمل، وسوف يجدون كل الدعم والمساندة من أشقائهم في الخليج، ونحن معهم نقول: وحدة اليمن خط أحمر!