د. محمد بن أحمد غروي
تزامنًا مع الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، شهدت جامعات ومراكز فكرية في ماليزيا تنظيم مسابقات علمية وندوات أكاديمية تسلط الضوء على مكانة لغة القرآن الكريم، ليس بوصفها لغة تراثية تُستعاد في مناسبة سنوية، بل باعتبارها رافدًا حضاريًا حيًا، يتجاوز حدود الجغرافيا والدين، ويمتد إلى مجالات التواصل الثقافي والدبلوماسي وبناء الفهم المشترك بين الشعوب.
في الأسبوع المنصرم، بدت العربية في أرخبيل الملايو أكثر من لغة يُحتفى بها؛ بدت ذاكرة جمعية وجسرًا روحيًا وأداة تواصل حضاري تعكس عمق الصلات التاريخية والوجدانية بين شعوب جنوب شرق آسيا والعالم العربي، فالعلاقة بين الملايو والعربية ليست علاقة طارئة، بل تشكّلت عبر قرون من التفاعل الديني والتجاري والثقافي، حتى غدت العربية جزءًا أصيلًا من نسيجهم الثقافي والروحي.
ولعلّ اللافت أن حضور العربية في ماليزيا لا يقتصر على المساجد والمعاهد الدينية، بل يمتد إلى تفاصيل الحياة اليومية، وإلى الذاكرة اللغوية ذاتها، حيث ما زالت بعض المناطق تحتفظ بالكتابة الجاوية التي تقوم في أصلها على رسم الحروف العربية، في دلالة رمزية على عمق هذا التداخل بين اللغة والهوية.
وفي إحدى الشهادات اللافتة، روى الدبلوماسي الماليزي المخضرم داتو سري الدكتور سيد حسين بن عبدالقادر الحبشي، الذي عمل سفيرًا في أربع عواصم عربية، كيف تعلّم العربية خارج القاعات الرسمية، عبر الاحتكاك اليومي بسائقي سيارات الأجرة وأصحاب المتاجر في مدن عربية مختلفة، كان يتحدث معهم عن تفاصيل الحياة اليومية، ليكتشف أن العربية مفتاح ثقة وبوابة احترام وأداة تقارب إنساني تُقرّب المسافات في العمل الدبلوماسي أكثر مما تفعل البروتوكولات الصارمة.
هذا المعنى تجسّد بوضوح في الندوة العلمية التي نظمها مركز التواصل الحضاري الدولي تحت عنوان «الدور الحضاري للغة العربية»، احتفاءً باليوم العالمي للغة العربية، واستعادت الدور التاريخي للعربية، بل سعت إلى إعادة تقديمها كلغة معاصرة، فاعلة في السياسة والثقافة وبناء السلام، ومنسجمة مع الرؤية التي انطلقت من بيان قمة الرياض بين دول جنوب شرق آسيا ودول مجلس التعاون الخليجي، الداعية إلى ترسيخ الحوار بين الحضارات، وتعزيز قيم التفاهم والتعايش السلمي.
المشاركون في الندوة أكدوا أن اللغة العربية، بما تحمله من عمق حضاري وثراء تعبيري، ليست لغة تخصص أكاديمي أو أداة عمل وظيفية، بل جسر معرفي وثقافي يربط بين الشعوب، ووسيلة فاعلة لتعزيز الحوار في العلاقات الدولية، وبقدرتها على الجمع بين الدقة والبلاغة، تمنح الدبلوماسية لغة أقل صدامًا، وأكثر احترامًا للخصوصيات الثقافية، فضلًا عن كونها لغة عبادة، ومحورًا أساسيًا لفهم النصوص الدينية، ومرتكزًا وجدانيًا في وعي المجتمعات الإسلامية. وقد منح حضور النخب من سفراء ودبلوماسيين ورؤساء جامعات وأكاديميين للندوة بُعدًا عمليًا يتجاوز الطابع الاحتفالي، ليؤكد أن للعربية رصيدًا استراتيجيًا في العلاقات بين الشعوب، وأداة تأثير ناعمة في عالم تتزايد فيه الحاجة إلى لغة تجمع ولا تفرّق.
هكذا، لم تكن الندوة احتفالاً سنوياً، بل شهادة جديدة على أن العربية ما زالت قادرة على أداء دورها الحضاري، وأن تظل لغة تجمع القلوب قبل الألسنة، من أقصى الشرق إلى قلب الجزيرة العربية.
ويبقى السؤال مفتوحًا: كيف يمكن تعزيز هذا الدور، وتكريس حضور لغة القرآن في الأرخبيل الآسيوي، بوصفه استثمارًا حضاريًا في مستقبل التفاهم بين الأمم.