رسيني الرسيني
كان المشهد مألوفًا قبل سنوات: طوابير طويلة، وأوراق متراكمة، وأوقات تُهدر بين نافذة وأخرى بحثًا عن توقيع أو ختم. كانت الخدمات الحكومية رحلة شاقة تتطلب حضورًا جسديًا وصبرًا طويلًا. أما اليوم تغيّر المشهد كليًا؛ لم تعد الطوابير جزءًا من الذاكرة اليومية، ولم تعد المكاتب وجهة إلزامية، إذ يمكن من المنزل، أو من أي مكان، تُنجز المعاملات بسلاسة وبدقائق معدودة. هذا التحول لم يكن مجرد تحديث تقني، بل انتقال حضاري في علاقة المواطن بالحكومة بشكل يعكس الرؤية الحكيمة التي جعلت الإنسان محور الخدمة، والتقنية وسيلتها، والكفاءة عنوانها.
من أجل ذلك، حققت المملكة إنجازًا عالميًا بحصولها على المرتبة الثانية في مؤشر نضج الحكومة الرقمية (GTMI) لعام 2025م الصادر عن مجموعة البنك الدولي، ضمن تقييم شمل 197 دولة، إذ بلغت نسبة النضج العام (99.64 %)، لتصنّف المملكة ضمن فئة الدول «المتقدمة جدًا». وتفوقت في المؤشرات الفرعية كافة، حيث حققت نسب مرتفعة تقارب 100 % في توافر الأنظمة الحكومية الأساسية، وتقديم الخدمات الرقمية، والتفاعل مع المواطنين، وممكنات التحول الرقمي. وهو أمر جلي من الممكن قياسه في حياتنا اليومية والمعاملات الحكومية الإلكترونية وسرعة إنجاز الطلبات دون الحاجة إلى زيارة المقرات الحكومية.
هذه الأرقام لا تعبّر عن نسب فنية فحسب، بل عن نضج منظومة متكاملة، إذ إن اقتراب المؤشرات من 100 % يعني أن البنية الرقمية أصبحت أقرب للكمال، وأن الخدمات لم تعد رقمية بالاسم، بل متصلة، وموثوقة، وقابلة للتوسع. كما أن ارتفاع مؤشر الأنظمة الأساسية يعكس جاهزية العمود الفقري للبنية التحتية للأجهزة الحكومية، فيما تُظهر نسب تقديم الخدمات والتفاعل انتقال الحكومة من «رقمنة الإجراء» إلى «رقمنة التجربة». أما ارتفاع نسبة ممكنات التحول الرقمي، فتؤكد أن التشريعات والحوكمة والمهارات تسير بتناغم، ما وضع المملكة ضمن التصنيف (A) للدول المتقدمة بثبات واستدامة.
اقتصاديًا، تُعد الحكومة الرقمية رافعة مباشرة للنمو وتسهيل الأعمال من حيث تقليص الزمن والتكلفة الإجرائية بشكل يرفع إنتاجية القطاعين العام والخاص، ويخفض تكلفة الامتثال، ويُحسّن بيئة الاستثمار. كما تعزز الشفافية وجودة البيانات اتخاذ القرار، وتسرّع دورة الأعمال، وتدعم الابتكار وريادة الأعمال. بالإضافة إلى ذلك، الحكومة الرقمية المتميزة تمكّن الاقتصاد غير النفطي عبر جذب الاستثمارات التقنية، وتوطين الحلول، وخلق وظائف نوعية. ومع تبني الذكاء الاصطناعي والتقنيات الناشئة، يتوقع أن تتحول الكفاءة الرقمية إلى ميزة تنافسية وطنية تُرسّخ مستهدفات الرؤية وتدعم الاستدامة المالية.
حسنًا، ثم ماذا؟
تثبت تجربة الحكومة الرقمية في المملكة أن الاستثمار في التقنية هو استثمار في الإنسان والاقتصاد معًا، حيث تتحول الكفاءة إلى قيمة، والوقت إلى إنتاج، والنمو إلى أثرٍ ممتد يعزز التنافسية، ويعمّق الاستدامة، ويرسّخ اقتصادًا أكثر مرونة على مواكبة المستقبل.