فائز بن سلمان الحمدي
لقد غدت العدسات في هذا العصر شهودًا على كل خاطر عابر، بل تجاوزت حدود الوقائع إلى أن صارت تنصت لما لا يقال، وتترصد ما يراد أن يفهم من وراء الإشارات والنظرات. دخلت البيوت كما يدخل النسيم من الشقوق، غير أنها لا تنعش الهواء، بل تثقله بالعيون. وحين امتدت إلى الموائد، وأخذت تصور الأطباق واللقيمات وهي بعد ساخنة تنفث بخارها، بدا المشهد كأنما هو إعلان دعائي لا لحياة تعاش، بل لمشهد يعرض. هناك، حيث يمد المضيف يده للطعام، تمتد يد أخرى للكاميرا، ليذاع العطاء قبل أن يتذوق، وليعرض الكرم قبل أن يشعر به. وهنا يولد السؤال المتردد بين القلب والعين: أي دافع هذا الذي يحرك الأصابع نحو آلة التصوير ساعة تمتد الأيدي نحو الرزق؟ أهو شكر لله على فيض النعمة؟ أم هو نوع جديد من التسويق الاجتماعي الذي يزين الكرم ليستحسن، لا ليحمد؟ إن بين الشكر والرياء خيطًا من نية، لو انقطع سقط الفعل من عليائه إلى مهاوي العرض والمباهاة.
كان الكرم، في الوعي العربي القديم، ليس عادةً اجتماعيةً فحسب، بل رؤيةً أخلاقيةً للوجود. كان العربي يرى في الضيف وجه القدر، وفي إطعامه مصالحةً مع الحياة القاسية التي تحاصره في الصحراء.
فالضيافة عنده ليست مجرد إشباع بطن، بل إكرام إنسان حل بساحتك فصار أمانةً في عنقك. ومن هنا نشأ مفهوم الكرم عند العرب: لا بوصفه تبذيرًا ماديًا، بل فعلًا رمزيًا يؤكد وجود الإنسان بمعناه الأصيل: أن يؤثر غيره وهو محتاج، وأن يعطي لأن العطاء يحرره من عبودية الامتلاك. ولذلك كان العربي في جاهليته -على شدة فقره- يأنف من أن يقال عنه بخيل، كما يأنف الحر من العار.
فالجود عندهم كان معيار الرجولة ومفتاح السيادة. ومن هنا ارتفع اسم حاتم الطائي، لا لأنه أطعم جائعًا واحدًا، بل لأنه جعل الكرم لغةً يعيش بها. كان يوقد النار في الليالي القارسة على ربى نجد، كأنها منارات الدعوة إلى المروءة، لا مجرد نيران دفء أو طهو.
ثم جاء الإسلام، فأرسى الكرم على قاعدة أعمق: أن يكون لله وحده. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه». فلم يعد الكرم مجرد عادة تمارس، بل عبادة تقاس بالنية، ويختبر بها صفاء السريرة. غير أن زمن الصورة أبدل المفهوم. لقد غلبت الوسائل على المقاصد، وامحت الحدود بين التعبير عن النعمة وبين التباهي بها. صارت الموائد تعد إعدادًا مزدوجًا: إعدادًا للطعام، وإعدادًا للعرض. وصار كثير من الناس يظن أن الكرم لا يعرف حتى يصور، ولا يصدق حتى يوثق، ولا يمدح إلا إذا نال نصيبه من «الانتشار».
إن العدسة في ظاهرها أداة حفظ، لكنها في باطنها -أحيانًا- أداة استهلاك للمعنى. فهي تظهر المظهر وتغيب الجوهر، وتستبدل الجو الإنساني الحميم بسطح بصري مصقول، فيغدو الكرم مشهدًا جماليًا لا موقفًا أخلاقيًا.
والأدهى من ذلك أن التصوير لا يجرد الفعل من خلوصه فحسب، بل يمس حرمة الضيف. فالضيافة مجال ستر وخصوصية، ومجلس أنس لا معرض وجوه. ومن الأدب أن يصان وجه الضيف كما يصان طعامه، وأن يحترم حضوره الإنساني قبل أن يستأذن في إظهاره البصري.
فإن الصورة، مهما حسنت، تظل شكلًا من أشكال التصرف في الغير. إن الكرم الحق لا يحتاج إلى شاهد غير الله، ولا إلى عدسة غير بصيرة الضمير. هو في جوهره تجربة داخلية، يشع فيها النور من القلب قبل اليد. هو أن تعطي لأنك تحب أن تعطي، لا لأنك تريد أن ترى معطيًا. الكرم، في عمقه، تحرير من الأنا، وانتصار على شهوة التملك. أما تصويره، فهو عودة إلى أسر الأنا في شكل جديد، إذ يصبح المعطي أسير صورته لا روحه. قال أحد الحكماء: «ما أعلن من المعروف فقد نصف أجره، وما خفي تضاعف.» ذلك لأن الستر يحفظ النية من شوائب الذات، ويحمي العطاء من زهو الظهور. ومن لم يعرف أدب الستر في الكرم، فقد فاته لب المروءة. فيا من جعلتم عدساتكم في موضع أعين الناس، اتقوا موضع نظر الله. فإن الله لا ينظر إلى الصور، ولكن إلى القلوب. اجعلوا بيوتكم مآوي كرامة وسكينة، لا صالات للبث والعرض. دعوا موائدكم تفيض بالرحمة لا بالزخرف، واجعلوا الكرم سرًا بينكم وبين الله، فهو أعلم بمن أطعم ابتغاء وجهه، ومن أطعم ابتغاء الإعجاب. إن الكرم العربي -في أرقى معانيه- كان فعلًا من أفعال الحرية: حرية القلب من البخل، وحرية اليد من التردد، وحرية الفعل من الرياء. فصونوا هذه الحرية من أسر الصورة، واحفظوا لهذا الخلق النبيل سموه عن المظاهر. فالعطر لا يحتاج إلى إعلان ليشم، والنور لا يحتاج إلى عدسة ليبصر، وكذلك الكرم، لا يحتاج إلى صورة ليؤمن به.