عبدالرؤوف توتي بن حمزة
لم تعد المسألة اليوم مسألة «المشاهير» الذين يحتشدون على الشاشات والمنصات، بل مسألة جيلٍ يُصنع خارج سياق الحياة الحقيقية، تسوقه الموضات وتحرّكه الخوارزميات. جيلٌ ينهض على نداء «الترند»، ويغفو تحت وطأة «المحتوى»، ولا يدري متى بدأت رحلته مع هذا العالم، ولا متى صار وعيه قابلًا لأن يُقاد بدل أن يقود.
في زمنٍ تُختصر فيه الحياة إلى ثوانٍ قليلة تمرّ عبر شاشة مضيئة، صار المشاهير أشبه بطاقة مغناطيسية خفية، وقوة رقيقة المظهر، لكنها عنيفة الأثر في المجتمع. يبتسم أحدهم، فتنساق أعين الشباب نحوه كما لو أنّ شيئًا خفيًّا يشدّهم إليه، ويجرّب طريقة العيش الجديدة، فتتحرك خلفه موجة تغيّر ملامح جيل بأكمله، ويشير إلى منتج عابر فتضج الأسواق وكأنها كانت تنتظر إشارة قدسية من السماء. لقد صار التأثير اليوم حدثًا يحدث داخل الوعي قبل أن يعي الوعي نفسه أنه تغيّر، وصارت «الشهرة» سلطة تصنع الواقع أكثر مما تعكسه. ولم يعد حضورهم ترفيهًا رقميًا فقط، بل سلطة ثقافية موازية تسير جنبًا إلى جنب مع المدرسة والبيت والمجتمع، بل تتقدّم عليهم أحيانًا. وهنا تبدأ الأسئلة الكبيرة: إلى أين يُقاد وعي الشباب؟ ومن يحرس العقول حين يصبح المؤثر هو «القدوة» الأسرع وصولًا والأعلى صوتًا؟
فالشباب -وهم طاقة الأمة ورهان مستقبلها- وجدوا أنفسهم في السنوات الأخيرة أمام موجة صاعدة من المؤثرين الذين تمدّد حضورهم على منصّات التواصل بطريقة أكثر جرأة واندفاعًا، حتى باتوا القوة الأكثر فاعلية في تشكيل السلوك، وإعادة توجيه الاهتمامات، وتحديد أنماط العيش لدى جيل يبحث عن الهوية والاعتراف.
ومع الانفجار الهائل للمقاطع القصيرة والـ«ريلز» في تيك توك وإنستغرام وفيسبوك، أصبح كثير من الشباب ينساقون بلا وعي إلى عالم مُصنع يعرض الحياة في أكثر صورها بريقًا، ويُخفي خلفه تعبًا وضغطًا وتكلّفًا. وهكذا تُستنزف الساعات في متابعة تفاصيل لا قيمة حقيقية لها، وتتشكل لدى الناشئة صورة مشوهة عن النجاح والجمال والسعادة، قائمة على المحاكاة والتمثيل عبر التقليد الأعمى لا على التجربة الإنسانية الحقيقية.
إن الخطورة تكمن في تحول هؤلاء المشاهير إلى مرجع يُقلَّد بلا تفكير؛ في قدرتهم على دفع الشباب إلى استهلاكٍ مظهري يُربك ميزان الثقة بالنفس، ويزرع الإحباط فيهم، ويخلق فجوة واسعة بين الواقع وما يُعرض على الشاشة. ومع انشغال الشباب بمراقبة حياة لا تشبه ظروفهم وحالاتهم، تضيع فرص التعلم والبناء، وتتآكل العلاقات الحقيقية لصالح علاقة رقمية أحادية الاتجاه تمنح وهْم الحميمية لا حقيقتها.
وفي مواجهة هذا الاندفاع الرقمي، تبرز مسؤولية الأسرة والمدرسة والمؤسسات التربوية والثقافية. فالواجب اليوم ليس في المنع ولا في التحذير التقليدي، بل في تأسيس وعي نقدي لدى الناشئة، وتعليمهم قراءة المحتوى بوعي، والتمييز بين رسالة صادقة وأخرى تجارية، وبين القدوة التي تُبنى على قيمة، والقدوة التي تُبنى على «ظهور».
إن تمكين الشباب من مهارات التحليل والتفكير النقدي هو السلاح الأنجع والأنجح في زمنٍ تتشابك فيه الخوارزميات بالصور، وتتنافس فيه الرسائل على خطف الانتباه. ومع أن المشهد لا يخلو من مؤثرين إيجابيين يفتحون نوافذ للمعرفة والإلهام، فإن هذا الوجه المشرق لا يغني عن الحاجة إلى تحصين العقول، خاصة حين تتداخل الدعاية بالتجربة، والتسويق بالنصيحة، و»الترند» بالقيمة.
هنا يبقى السؤال الأهم: كيف نحمي وعي الشباب من الانجراف في هذا الضجيج الرقمي؟ فالجواب يبدأ من الإدراك أن المعركة اليوم ليست مع المشاهير، بل مع صورة الحياة التي يصنعونها... ومع البريق الذي يخفي الحقيقة... ومع المقارنة التي تُنهك القلب قبل العقل. إنها معركة لحماية الإنسان من أن يتحول إلى متلقٍّ سلبي، تسوقه الخوارزميات كما تشاء، وتمنحه انطباعًا كاذبًا بأن الحياة لقطة مثالية بلا تعب ولا جهد.
فالحفاظ على وعي الشباب بات كمسؤولية مجتمع كامل: البيت الذي يرشد، والمدرسة التي تربي، والإعلام الذي يضيء، والشاب نفسه الذي تعلّمه التجربة أن جميع ما يلمع ليس دائمًا ذهبًا. بين الواقع والبريق... وبين ما يُقال وما يُخفى... تُبنى عقول الغد والمستقبل. والمجتمع الذي يُحسن قيادة هذه المعركة -معركة الوعي- هو المجتمع القادر على أن يحفظ شبابه، وأن يصنع مستقبلًا يليق بكرامتهم الإنسانية إلى حد ما. وللحديث بقية..!
** **
- باحث أكاديمي من الهند