محمد بن إبراهيم العرف
في كلِّ وداعٍ لقاء، ولكلِّ لقاءٍ وداع. عبارةٌ تبدو عابرة في معناها، وغريبة في مغزاها، لكنها كلما مرّت في مخيلتي أتوقف طويلًا لتحليلها والتفكّر بها؛ فهي العمق في أبهى صوره. أتذكّر بيتًا كان والدي -رحمه الله- يردّده عليّ كثيرًا:
وَلَدَتْكَ أُمُّكَ يا ابنَ آدمَ باكيًا
والناسُ من حولك يضحكون سرورًا
فاحرص على عملٍ تكون إذا بكوا
في يوم موتك ضاحكًا مسرورًا
وكأنه كان يهيئني منذ وقتٍ مبكر لفكرة النهاية، لا بوصفها الحرفي، بل بوصفها حقيقة لا مهرب منها.
ويزداد هذا المعنى رسوخًا حين أستحضر قول أشرف الخلق رسولنا الكريم عليه أشرف الصلاة والتسليم، في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: «أكثروا ذكر هادم اللذات: الموت». حديث لا يدعو إلى الحزن، بقدر ما يدعو إلى التفكر في أن الإنسان يعيش حياته وهو يعلم أن لكل خطوة حسابًا ولكل عمل جزاء، ولكل أثر بقاء لما بعد الموت.
من هنا تستوقفني فكرة جوهرية عميقة: أن العمل للآخرة، واستحضارها في تفاصيل الحياة اليومية، هو الميزان الحقيقي لكل ما نقول ونفعل. ليست العبرة بطول البقاء، بل بما نتركه خلفنا من أثرٍ صالح، وعملٍ صادق، وذكرٍ حسن.
وتبرز فكرة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها: حسن التعامل مع الناس. فالعلاقات لا تُقاس بكثرتها، بل بصدقها. والإنسان لا يُذكر بعد رحيله بما جمع، بل بما قدم، وبكيف عامل القريب والبعيد، وبما زرعه من طيبة في قلوب من عرفوه. فالكلمة الطيبة لا تموت، والموقف النبيل لا يُنسى، والعدل في التعامل يبقى شاهدًا حتى بعد أن يغيب الجسد.
ويبقى الذكر الحسن هو الخاتمة التي يتمناها كل عاقل؛ أن يذكرك الناس بخير، لا مجاملةً، بل شهادة حق. وأن يكون حضورك في حياتهم قد ترك أثرًا يجعل الدعاء لك صادقًا لا لحظيًا أو مُتكلّفًا.
ولعلّ فيما حدث في ذلك الحادث المروّع الذي أودى بحياة الشهير أبو مرداع – رحمه الله – وما أصاب أبا حِصّة ودخيل، شفاهما الله وعافاهما، مثالٌ حيّ لا يُنسى على صدق الأثر وبقاء السيرة. لم يكن المشهد مجرّد خبرٍ عابر، بل حالة إنسانية جامعة، توحّدت فيها القلوب قبل الألسنة، وارتفع الدعاء من كل أطياف المجتمع. هناك، تتجلّى الحقيقة واضحة: أن الإنسان لا يُقاس بما يملك، بل بما يتركه في قلوب الآخرين حين يرحل، وأن المحبة الصادقة تتحوّل إلى دعاءٍ مستمر، وأن الذكر الحسن هو أصدق ما يشهد للمرء بعد موته.
ولا أنسى أن أشير إلى أن أعظم ما يورثه الإنسان بعد رحيله هو تربية الأبناء وتهذيبهم وتعليمهم. فهما الامتداد الحقيقي، والرصيد الباقي، والصدقة الجارية التي تمشي على الأرض.
ليس المال هو الإرث الأهم، بل القيم التي نغرسها، والمبادئ التي نربّي عليها، والأخلاق التي تسبق أسماءهم، فتكون لهم عون في حياتهم، ودعاءً لنا بعد مماتنا.
في الوداع الأخير، ندرك أن أجمل ما يمكن أن نرحل به هو أثرٌ طيب، وسيرةٌ نقية، ودعاءٌ صادق. أن نرحل وقد أدينا الأمانة، وتركنا خلفنا شيئًا جميلًا دائمًا.. يستحق أن يُتذكَّر دون أن ينقطع.