د. أحمد محمد القزعل
مع مرور الأيام نلاحظ تراجع معنى المسؤولية، حتى كادت تغدو كلمة قديمة فقدت بريقها، لم تعد المسؤولية سلوكاً نبيلاً، بل صارت عند كثيرين عبئاً يحاولون التملّص منه أو تأجيله، لكن المسؤولية ليست حملاً على الظهر، بل هي أدب في القلب، أدب يُترجم إلى صدق في الفعل وإخلاص في النية واحترام للآخر.
تربية المسؤولية تبدأ من الصغار، حين نعلّم الطفل أن يرتب ألعابه لأنه يحترم من تعب في شرائها، أو أن يعتذر لأنه مسؤول عن كلمته، وحين نغرس هذا الأدب في القلوب ينشأ جيل لا يحتاج إلى مراقب ولا قانون، فالمسؤولية ليست نظاماً يُفرض بل وجدان يُغرس.
كم من مشهد نراه يومياً يوجع القلب: موظف يتأخر عن عمله ويعلل ذلك بالزحام، عامل ينجز نصف مهمته ثم يلوم الأدوات، وطالب يبرّر فشله بالمدرسة!، إنها دائرة التهاون التي تتسع حتى تبتلع قيمنا، حين يغيب أدب المسؤولية يختلّ الميزان، ويصبح الخطأ مقبولاً ما دام الجميع يفعله.
إن المجتمع الذي يتهرب أفراده من المسؤولية يتحوّل إلى جسد بلا عمود فقري، تتحرك أطرافه بلا توازن، ولعل الإصلاح الاجتماعي يبدأ حين نُعيد إلى الناس إيمانهم بأن كل فعل صغيراً كان أو كبيراً له أثر ومسؤولية، إن من يلقي ورقة في الشارع ثم يقول: واحدة لا تضر، هو أول من يشارك في الفوضى العامة، وهو من يؤخر وعده بحجة: ظروف بسيطة، ليزرع بذرة الكسل فيمن حوله.
ليست الأمم العظيمة تلك التي تُكثر من العقوبات، بل التي تُربّي مواطنيها على أدب المسؤولية حتى يغدو القانون في ضميرهم قبل أن يكون في أوراقهم، كنتُ في رحلة إلى إحدى الدول، فلفت نظري مشهد بسيط: رجل خمسيني يركن دراجته أمام المتجر دون قفل، ثم يعود بعد ساعة ليجدها كما هي، سألت رجلاً يقيم هناك: ألا تخافون من السرقة؟، فأجاب: لسنا ملائكة، لكننا نعرف أن مسؤوليتنا تجاه الآخرين هي احترام ما ليس لنا.
المسؤولية لا تحتاج إلى سلطة، بل إلى ضمير مستيقظ، الشاب الذي يطفئ مصباح غرفته عند الخروج يمارس أدباً في المسؤولية تجاه البيئة، والموظف الذي لا يترك عمله معلقاً للغد يُجسّد مسؤولية تجاه وقته، والابن الذي يسند والده في شيخوخته يمارس أرقى درجات المسؤولية الإنسانية.
حقيقة إن التحول من التهاون إلى المسؤولية لا يبدأ بإصدار قرارات، بل بإيقاظ الضمائر، إن التهاون الذي يسري في بعض تفاصيل حياتنا من تأجيل العمل إلى الإهمال إلى الكذب الصغير، هو الذي يصنع التخلف الكبير، ولعل الإصلاح يبدأ حين نعيد إلى الناس شعورهم بأنهم أمناء على كل لحظة، على الكلمة، على العمل، على الوطن، وليست المسؤولية أن تفعل كل شيء، بل أن تفعل ما بوسعك بصدق.
إن أدب المسؤولية لا يطلب الكمال بل يطلب الإخلاص، لا يطلب البطولة بل الثبات، أن يكون الإنسان مسؤولاً يعني أن يكون حرّاً من الداخل، لا يخاف من المحاسبة لأنه حاسب نفسه قبل أن يُحاسَب، في زمن التهاون تكون المسؤولية شكلاً من أشكال المقاومة؛ مقاومة الكسل واللامبالاة والاستسلام للعادة.
المسؤولية ليست شعاراً يُرفع في الخطابات، بل أدب يُمارس في تفاصيل الحياة، تبدأ المسؤولية حين يلتزم المعلم بموعد درسه، وتستمر حين يحفظ التاجر الأمانة، وتكتمل حين يدرك المواطن أن وطنه مرآة أفعاله، فإذا استيقظ فينا أدب المسؤولية أشرقت فينا روح الإصلاح، وعاد المجتمع إلى مكانه الطبيعي مجتمع ينهض لا لأنه الأقوى، بل لأنه الأصدق في أداء واجبه.