د.محمد بن عبدالرحمن البشر
البعض، إن لم يكن الأغلب، يستجلب ماضيه أكثر من النظر في حاضره أو التطلع إلى مستقبله، يفكر في الماضي ويقلبه كما يقلب يده ذات اليمين وذات الشمال، ويجول بفكره في ذكرياته كما يجول في السوق، وتمر الأحداث في خاطره المفرحة والمحزنة، والجميلة والقبيحة، والمسعدة والمؤلمة، يتوقف عند بعضها، ويتجاوز البعض الآخر، وربما يتمنى لو انه فعل هذا أو لم يفعل ذلك، وينسى أن كلمة لولا تفتح عمل الشيطان، يسرف تارة في تقصي موقف معين أو حدث وقع، ويستجلبه كما لو أنه فعله اليوم، فإن كان حلوا استساغه وتلذذ به، وان كان مُراً تجاوزه أو قد يمعن في الإبحار فيه، وهذا الإبحار المحزن يجلب الألم والتعاسة، وربما يؤدي إلى الإكتئاب المزمن إذا تكرر منه ذلك، ودواؤه قوة الإيمان، وربط الأمر برب العباد، واليقين أن ماحدث لم يكن ليحدث لولا مشيئة الله لخير يتبع أو شر يمنع.
تقليب صفحات الماضي الجميل يجلب السعادة، ويأخذ المرء إلى عالم افتراضي غير عالمه الذي يعيشه إن كان في حاضره شيء يدعو للأسى، وإطالة الإمعان في الصفحة الجميلة تساعد في شفاء من الداء، وتبعث الأمل، وتكسر المستحيل، فالأيام تمر مر السحاب، وما على الإنسان إلا اغتنامها، حتى وإن كان بالتحليق في ماضى جميل، مثل تحقيق غاية أو اجتماع مع أحبة، أو عنفوان الشباب بما يحمل من صحة وإشراق محيا، واجتهاد دون كلل، وإطالة التفكير الجميل هذه قد ترسخ في الذهن وتزور في المنام ليستمتع المرء في صحوه ونومه، يقول أبو العلاء المعري:
مَغاني الّلوَى من شخصِكِ اليومَ أطلالُ
وفي النومِ مَغْنىً مِن خيالِكِ مِحْلال
مَعانِيكِ شَتّى والعبارَةُ واحِدٌ
فطَرْفُكِ مُغْتالٌ وزَنْدُكِ مُغْتال
أي أن العبارة واحدة، وإن اختلف المعنى، فالمغتال الأولى بضم الغين تعني ان الطرف يغتال الفؤاد بنعوسته وجماله، ومعنى مغتال الأخرى: أي ان الزند سمين وممتلئ بالشحم، فاللفظ واحد، والمعنى مختلف، لقد استجلب ابو العلاء موقفاً جميلاً تمثل لديه في منامه، فرأى ذلك الطرف الناعس المكحول، والزند السمين المفتول، فاستمتع في اليقظة والمنام.
في العصر الجاهلي والعصور التي تلته، لا يكتفي المرء بالتفكير واستجلاب الماضي، انما يتعدى ذلك إلى السير أميالاً ليقف على الأطلال، يتذكر المنازل والآثار، والربوع والديار، يقبل ذا الجدار وذا الجدار، يرنو إلى موضع صخرة، أو ظل شجرة، فيتذكر ويبكي وينوح، ويتخيل عطرها يفوح، فإن كان شاعراً أرسل شعره ليتخطفه الرواة، فيصل إلى مسامع العامة والخاصة، والشعراء والأدباء، فيدونه المؤلفون، وينتقده المنتقدون، ويطريه المحبون، فيحفظ لنا ونقرأه بين طيات الكتب بعد مئات السنين، ويحفظ البعض بعضه، وهنا شيء من شعر الأقدمين في الوقوف على الديار والحنين قال جرير:
لِمَنِ الدِيارُ بِبُرقَةِ الرَوحانِ
إِذ لا نَبيعُ زَمانَنا بِزَمانِ
أَصبَحنَ بَعدَ نَعيمِ عَيشٍ مُؤنِقٍ
قَفراً وَبَعدَ نَواعِمٍ أَخدانِ
وقال زهير بن أبي سلمى:
قِف بِالدِيارِ الَّتي لَم يَعفُها القِدَمُ
بَلى وَغَيَّرَها الأَرواحُ وَالدِيَمُ
أما اليوم فلا حاجة لأبناء زماننا بمثل هذا النواح والعويل، والتباكي والتعليل حول أثر قصور من أحبها وذكرياته معها، فالذكريات تنتقل معه في هاتفه المتنقل، وليس في ذاكرته، ينظر إلى من أحب كما يشاء ومتى شاء، ويعيدها مرات ومرات فلم يعد هناك من يقف على آثار الحبيب للتذكر، وأنما وقوف على الآثار للتعلم والتدبر.