أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
انتهينا في مساقٍ سابقٍ إلى أنَّ (عِلم نقد العُلماء)- نعني من نحو ما اصطُلح عليه قديمًا بالجرح والتعديل- لو أُخِذ به في ثقافتنا العَرَبيَّة كافَّة، لكفانا مؤونة الصدمات المعرفيَّة والفكريَّة، حينما نقرأ لأعلام تراثنا اللُّغوي. ولَقاربْنا الاهتداء إلى مَن نأخذ عنه لُغتنا وعلومها، محاولةَ الاهتداء إلى مَن يُؤخَذ عنه الدِّين. وفوق هذا، لربما تخفَّفنا من تركة هذا التراث الثقيلة، التي ما تزال أجيالٌ بعد أجيال تجترُّها، وتزكم بها العقول؛ إذ تستأنف ترَّهاتها العتيقة جذعةً، كلما ظنَّنا أنْ قد أفاق بنا صبحٌ جديد من الوعي بالإنسان واللُّغة. قلتُ لمُحاوري (ذي القُروح):
- إذا تخطَّينا بقايا العقل الخرافي تلك، التي تجسَّدت في جماجم بعض الناس، خلال القرن الثالث الهجري، ماذا نجد؟
- سنُدرك أنَّ عمليَّة التوثيق المعلوماتي قد مرَّت بمراحل عبر التاريخ البَشَري. فكانت المشافهة وسيلتها، قبل الكتابة. بل حتَّى بعد ظهور الكتابة وسيلةً معرفيَّة، ظلَّ هنالك من يعوِّل على الرواية في التوثيق، فأُثِر عن العَرَب، من الرعيل الأوَّل في الثقافة الإسلاميَّة، قولهم- في انتقاص الاعتماد على الكتابة-: «فلانٌ عِلْمه في قراطيس!» أي أنَّه لا يعتمد على الذاكرة؛ ولذلك لا ثِقة بعِلْمه، لديهم. على حين يتضاغَى اليوم في بعض الأوساط البحثيَّة مَن يشكِّك في مرويَّاتٍ تراثيَّة، لغياب وثائقها المكتوبة. ومن المتوقَّع أن يشهد الأمر مستقبلًا تشكيكًا في الوثائق المكتوبة نفسها، بدعوَى أنها مجهولة الكيفيَّة في وجودها، فوق كونها عُرضةً للخطأ، تصحيفًا، أو تطبيعًا، أو تزويرًا.
- وعندئذٍ ستكون المطالبة بالوثيقة المسجَّلة صوتًا وصورةً فقط، وإلَّا فلا ثقة في النصوص المكتوبة.
- وبذا ستؤوب الرحلة التوثيقيَّة إلى الرواية الشفويَّة، لكن موثَّقةً بصُوَرٍ حيَّة، هذه المرَّة. وعندئذٍ سيعود الإيمان بتفوُّق الرواية الشفويَّة على الكتابيَّة، كما كان يَرَى القدماء، وكأنَّه إنَّما كان أَعْوَز القدماء حفظُ تلك الوثائق الشفويَّة لمن جاء بعدهم بوسيلة أكثر تطوُّرًا من تقييدها بالتدوين.
- الحقُّ أنَّ هذه الوسيلة الشفويَّة، أو القائمة على المشاهدة المباشرة، هي ما تعتمد عليها المحاكم القضائيَّة في كلِّ عصرٍ، وتَعُدُّها أقوى الأدِلَّة، اعترافًا أو شهادةً أو بيِّنة.
- وما نخلص إليه من هذا هو أنَّ مسألة التوثيق تظلُّ مسألةً نِسبيَّة، لا يصحُّ القطع فيها بإطلاق، ولا التشكيك فيها بإطلاق. وإنَّما ينبغي نقد الأسانيد والرُّواة، ونقد المتون والقرائن، لترجيح أحد الاحتمالين: الصِّحَّة أو عدمها. وهي الآليَّة التي كان يأخذ بها المحقِّقون في تراثنا العَرَبي الإسلامي، ولا سيما في مدرسة (الحديث النبوي). وذاك أقصَى ما يمكن أن يأخذ به باحثٌ في تحرِّي الحقائق.
- من هنا يبدو من السَّفهِ- من وجهةٍ عِلْميَّة- التشكيك في بعض معطيات التراث وأدواته بحُجَّة أنها لم تصلنا في وثائق مكتوبة عن أصحابها.
- وليس يصحُّ في الأذهان شيءٌ من الماضي، باتِّباع هذا المنهاج. وإنَّما للباحث الجاد، بل من الواجب عليه، نقد التراث بأدواتٍ عِلْميَّة يُعتدُّ بها، لتمحيص صحيحه من زائفه، وَفق شروط تلك الأدوات.
- ومن نماذج هذا العَتَه البالغ أقصاه قول أحد الموصوفين جُزافًا ب-(المفكِّر العَرَبي العفيف الأخضر)- وقد انتهى به المطاف الفكري إلى الانتحار أو محاولة الانتحار في أحضان عاصمة الاستعمار القديم والحديث (باريس)-: «لا أجزم ب-(لم)؛ لحاجة العَرَبيَّة إلى الحروف الصوتيَّة الفقيرة فيها»!(1)
- وأمَّا أنا، فأجزم أنَّ هذا المفكِّر الدَّعِيَّ لا يجزم لأنَّه، ببساطة، أُمِّيٌّ؛ فهو يحاول تبرير عِيَّه وجهله، بأنَّه مُجدِّد للُّغة العَرَبيَّة.
- بل لعلَّه يرى نفسه مستدرِكًا على العَرَب في لُغتهم!
- من طالَع مؤلَّفات هذا المفقِّر، دهش لمقدار ما فيها من جهل مخجل باللُّغة والتاريخ والأدب.
- لا غرو، فكلُّ إناء بما فيه ينضح. ولعلَّك تلحظ هنا الفارق العلمي والحضاري بين هذا الأخضر وباحث عِلمي رصين كالياباني (توشيهيكو إيزوتسو Toshihiko Izutsu، -1993)، مؤلِّف كتاب «الله والإنسان في القرآن: عِلم دلالة الرؤية القرآنيَّة للعالَم»، الذي يجيد أكثر من ثلاثين لُغة، منها العَرَبيَّة، وترجم «القرآن» إلى اليابانيَّة، ولم يضق بحكاية (الجزم)، ولم تلفته حاجة العَرَبيَّة إلى الحروف الصوتيَّة!
- شتان بين الثَّرى والثُّريَّا! وليس (الأخضر) ببدعٍ في مثل هذا الادِّعاء العرباني، الذي ينبثق عادةً عن عُقَد اجتماعيَّة أو حضاريَّة؛ فلقد زُعِم من قبل أنَّ الجهل بعَروض الشِّعر العَرَبي، مثلًا، أو عجز الموهبة عنه، هو تجديدٌ لا يُشَقُّ له غبار للشِّعر العَرَبي، تمخَّض عنه شِعر التفعيلة أ وَّلًا ثمَّ قصيدة النثر أخِرًا.
- ومن هنا أصبحنا على العَرَب وقد صاروا من المحيط إلى الخليج جميعًا شعراء!
- بالطبع، فبإسقاط الشَّرط العَروضي فُتِح سَدُّ يأجوج ومأجوج لكلِّ المتشاعرين! وما كان للجاهل أن يجدِّد شيئًا سِوَى جهله! وإنَّما التجديد وليد العِلم الراسخ ومن ثَمَّ التجاوز للتراث إلى ما هو أرقى.
- وهكذا، فإنَّ (العفيف الأخضر) جنَّنه الجزم والرفع والنصب، فقرَّر ترك كل قواعد اللُّغة العَرَبيَّة. وحتى لا يفتضح جهله، سيقول: «إنَّما أوتيته عن عِلم عندي، وعن سبق إصرار وترقُّد لتجديد اللُّغة العَرَبيَّة»، كما فعل الشعراء الذين جنَّنتهم بحور الشِّعر العَرَبي، فقالوا: «لندع وجع هذا الدماغ، ونسمِّي هذا تجديدًا للشِّعر العَرَبي!»
- ولقد شهِد (الأخضر) على نفسه بنفسه؛ حيث قال ما تقوله أنت هنا. وهذا كلامه: «لُغة الفِصام هي دائمًا جديدة؛ «كآبة باريس»، أسَّسَ بها (بودلير) قصيدة «النثر». اللَّا مبالاة بالقواعد النحويَّة والصرفيَّة واللُّغويَّة السائدة، هي عَرَضٌ للفِصام، كما يشخِّصها الطِّب النفسي!»(2)
- وشهِد (الأخضر) على نفسه بالفِصام كما يشخِّصه الطِّبُّ النفسي!
- ومن ضروب التشكيك في الموروث- على سبيل النموذج- التشكيك في شِعر العَرَب قبل الإسلام وفي نثرهم. فلئن صحَّ القول بالانتحال في بعض الشِّعر الجاهلي، وصحَّ القول بضياع معظم النثر العَرَبي قبل الإسلام، فإنَّ الحديث عن أنَّ كلَّ ذلك التراث الأدبي إنَّما انتُحل بعد الإسلام حديث خرافة، يا أُمَّ عمرو!
- لماذا، يا أبا عمرو؟!
- لأنَّ مَن يزعم هذا الزَّعم إمَّا أنَّه لا يفكِّر في ما يقول، وإمَّا أنَّه يتمتَّع بخيالٍ مريض، يُخيِّل إليه أنها قد نشأت في القرنين الأوَّل والثاني الهجريَّين جيوشٌ جرَّارة، لا شُغل لها إلَّا تأليف الشِّعر، والخُطَب، والأخبار، والقصص، وعزو ذلك إلى العَرَب! وهو تصوُّرٌ لا يخطر في بالٍ سَوِيٍّ، مهما كانت الأسباب وراءه والدوافع. غير أنَّ كثيرًا ممَّن يناقشون هذه القضايا كثيرًا ما يقعون في الخلط بين مسألتين.
- وهما؟
- المسألة الأُولى أنَّ الكتابة هي غالبًا أكثر من الرواية حفظًا للنصوص زمنيًّا، والمسألة الثانية أنَّ الرواية الشفويَّة لا معوَّل عليها البتة في حفظ النصوص.
- فإذا هم ينتهون من التسليم بالمسألة الأُولى إلى التسليم بالثانية.
- نعم. مثَلهم كمن يسلِّم بأن «ليس الذَّكر كالأُنثى»، فيحفظ النصَّ ويردِّده بلا فهم؛ لينتهي به الضَّلال إلى أنَّ الأُنثى لا وجود لها.
- أو قل: لا قيمة لوجودها!
- والحقُّ أنَّه لا يفهم مثل هذا إلَّا مَن يفهم أنَّ الحياة لونٌ واحد، وإلَّا فلا.
- وما يفهم مثل هذا مَن يفهم الحياة أصلًا.
- وبالقياس يمكن القول: أنْ ليست الكتابة كالرواية، فلها ميزات نوعيَّة، كما أنَّ للرواية ميزات نوعيَّة.
- ورُبَّ رواية كانت أحفظ للنصِّ من كتابة.
- صحيح. وما حدثَ في رحلة الأدب العَرَبي، بشِعره ونثره، عبر ثلاثة قرون تقريبًا، بين منشئيه قبل الإسلام إلى مدوِّنيه بعد الإسلام، ليس بالأمر المستغرَب في ثقافات الشعوب. ولنا في تراثنا الشَّعبي خير برهان؛ فكم من الشِّعر، والأخبار، والقصص، تناقلتها الأجيال، عن الآباء والأجداد، مشافهةً، فبقيت قرونًا!
- على الرغم من تجاوز المجتمع غالبًا عصور المشافهة والرواية، إذا ما قيس حاله إلى ما كان عليه الحال قبل خمسة عشر قرنًا.
- نعم، يعتور النصوص المرويَّةَ الخطأُ، والنسيان، والزيادة والنقصان، لكنَّ مادَّتها، وأعرافها الفنِّيَّة، وخصائص لُغتها، كلّ أولئك تبقى إجمالًا. كيف وقد كان الشِّعر العَرَبي عِلْم العَرَب، ومَنَّهم وسلواهم، وفنَّهم الوحيد، وسِجِلَّ تاريخهم، وديوان ثقافتهم، ولغتهم اليوميَّة، وما كانوا ليَدَعوه حتى تَدَع الإبل الحَنين؟!
- ولن تَدَع الإبل الحَنين، ولن يَدَع العَرَب الشِّعر وثقافته!
(1) الأخضر، العفيف، (2014)، من محمَّد الإيمان إلى محمَّد التاريخ، (كولونيا- بغداد: منشورات الجمل)، 28.
(2) م.ن، 203.
** **
(العضو السابق بمجلس الشورى - الأستاذ بجامعة الملِك سعود)