د.زكية محمد العتيبي
ليست الإلياذة والأوديسة مجرد حكايتين من زمنٍ غابر، بل مرآتان متقابلتان تعكسان سيرة الإنسان في كل عصر؛ كلما وجد نفسه في صراع، سواء في ساحات الحرب القديمة أو في ساحات الحياة الحديثة، حيث تتبدل الأسلحة لكن تبقى الدوافع واحدة.
في الإلياذة ينهض السؤال فجًّا وصارمًا: كيف يُخاض الصراع؟ ويأتي الجواب مشبعًا بالغضب والاندفاع: بالقوة، والحسم السريع، والإيمان الأعمى بأن القيمة تُقاس بما نُقصيه لا بما نفهمه؛ هناك، تتجسد البطولة في القبضة المشدودة، وفي الضربة التي لا تترك مجالًا للتردد؛ إنها روح البداية، حين يكون الإنسان في أوّل الطريق: قليل الخبرة، مفرط الثقة، يظن أن الصدام الدائم علامة قوة، وأن الانتصار لا يتحقق إلا على أنقاض الآخرين.
هذه الروح لا تمكث في الأساطير وحدها؛ بل تتسلل إلى العلاقات الإنسانية، إلى بيئات العمل، إلى النقاشات العامة، وإلى المجال الاجتماعي بأسره. نراها فيمن يختار القسوة بدل الحوار، والمواجهة بدل الفهم، والصوت الأعلى بدل الفكرة الأعمق.
هؤلاء يربحون معارك عابرة، لكنهم يخسرون شيئًا أثمن: المعنى، وثقة القلوب؛ فالنصر الذي يُبنى على الإقصاء غالبًا ما يكون صاخبًا في لحظته، لكنه هشّ في جوهره، سريع الزوال، فارغ الأثر.
ثم تأتي الأوديسة، لا بوصفها امتدادًا للحرب، بل بوصفها ما بعد الحرب؛ حين يخفت صليل السيوف، ويبدأ السؤال الأصعب والأصدق: كيف يعود الإنسان إنسانيًا بعد أن أنهكته المواجهات؟
هنا، لم يعد الخصم جيشًا واضح المعالم، بل الخصم هو التعب، والانتظار، والضياع الداخلي؛ حين تتراجع القوة الجسدية، ويتقدم العقل باعتباره وسيلة بقاء فبالقدرة على ضبط النفس، يشق الإنسان طريق العودة إلى ذاته.
في هذا المقام، لا يُلغى مفهوم القوة، بل يُعاد تعريفه: قوة تعرف متى تتراجع، ومتى تصمت، ومتى تختار السلام بدل الغلبة.
في هذا التحول تتجلى الحكمة الحقيقية في وعي الحدود وفي الفهم العميق بأن الصراع الدائم لا يستنزف الخصوم بقدر ما يستنزف صاحبه، وأن بعض المعارك، مهما بدت ضرورية، لا تترك خلفها سوى فراغ داخلي لا يُرمَّم.
وهكذا، تُلقي الملحمتان بظلالهما على مسار الإنسان كله ففي بداياته: قد يندفع إلى النزال، ويبدد طاقته في إثبات ذاته بالقسوة، ويظن أن التفوق لا يتحقق إلا بمزاحمة الآخرين وإقصائهم، ومع مرور الزمن، ومع تراكم الخيبات والتجارب، يبدأ في إدراك حقيقة مؤلمة: إنّ كثيرا مما قاتله لم يكن عدوًا حقيقيًا، وكثيرا من الجراح كان يمكن تفاديها لو اختار الفهم بدل الصدام.
وعند محطات متأخرة من العمر، حين تخفت الألقاب، ويصمت التصفيق، ويتراجع الضجيج، يطفو السؤال المرّ: علامَ أُنفِق هذا العمر كله في النزال؟
يحاول بعضهم في تلك اللحظة ترميم ما تصدّع، في العلاقات وفي الذاكرة وفي الصورة الذاتية؛ لكنهم يكتشفون متأخرين أن ما تهشّم عبر سنوات من القسوة لا يُرمَّم بسهولة، وأن القلوب التي أُقصيت لا تعود لمجرد حسن النية المتأخرة. فيلجأون إلى مسارات إنسانية أو أخلاقية جزئية، لا بدافع التصالح الحقيقي، بل حفاظًا على صورةٍ محتملة أمام أنفسهم، أكثر منها عودة صادقة إلى الآخرين.
الإلياذة تمثل اندفاع البداية، حيث تُختبر القوة بلا حكمة، والأوديسة تمثل حكمة النهاية، حيث يُعاد بناء الإنسان من الداخل.
وبينهما، يتعلم الإنسان الدرس الأثقل:
إن القوة في زمن النزق لا تبني معنى، وأن الحكمة وحدها هي ما يترك أثرًا لا يبعث على الندم، حين يضع الإنسان سلاحه ويعود إلى نفسه.
** **
- أديبة وأكاديمية سعودية.