صباح عبدالله
رواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح تُعد من أهم الأعمال السردية في الأدب العربي الحديث لما تحمله من عمق فكري وكثافة رمزية وقدرة عالية على مساءلة الهوية والذات والعلاقة بين الشرق والغرب عبر بناء روائي هادئ في سطحه عميق في جوهره، فهذا العمل لا يعتمد على تسارع الأحداث قدر اعتماده على تفكيك التجربة الإنسانية من الداخل، وعلى كشف التوترات النفسية والفكرية التي تتشكَّل نتيجة الاحتكاك غير المتكافئ بين عالمين مختلفين في القوة والتاريخ والتصور عن الذات.
تنطلق الرواية من عودة الراوي، وهو شاب سوداني تلقى تعليمه في أوروبا، إلى قريته الصغيرة الواقعة على ضفاف النيل، هذه العودة تبدو في بدايتها عودة طبيعية محمّلة بالحنين والرغبة في الاستقرار، غير أن هذا الشعور لا يستمر طويلًا، إذ يتسلَّل القلق تدريجيًا مع تعرفه على شخصية مصطفى سعيد، الرجل الغامض الذي يعيش في القرية حياة هادئة ظاهريًا ويخفي وراء صمته تاريخًا مثقلًا بالتجربة الغربية، هذه الشخصية تتحول مع تطور السرد إلى مركز الأسئلة الكبرى في الرواية، وتصبح مرآة يرى فيها الراوي احتمالًا آخر لمصيره.
تضع الرواية القارئ منذ بدايتها أمام سؤال الهوية بوصفه تجربة معيشة لا أطروحة فكرية مجردة، فالراوي يشعر بانتماء إلى المكان والأهل والذاكرة، غير أن هذا الانتماء مشوب بشعور خفي بالمسافة، بينما يبدو مصطفى سعيد وقد انقطع وجدانيًا عن المكان الأول بعد أن تشكّل وعيه في فضاء مختلف، هذا التباين بين الشخصيتين لا يُقدَّم عبر مواجهة مباشرة، وإنما من خلال الحوارات الصامتة والاعترافات الجزئية والتوترات غير المعلنة، وكأن الكاتب يتعمد أن يجعل المعنى يتشكَّل ببطء داخل وعي القارئ.
من خلال سيرة مصطفى سعيد في إنجلترا تكشف الرواية عن بعد نفسي عميق للاستعمار يتجاوز السيطرة السياسية والاقتصادية إلى إعادة تشكيل الذات، فمصطفى سعيد لا يظهر ككائن مسحوق فاقد للوعي، بل كشخص شديد الذكاء استطاع أن يستثمر الصورة التي يتخيلها الغرب عن الشرق، واستخدمها وسيلة للنفوذ والتفوق، غير أن هذا المسار لم يؤد إلى التحرر الداخلي، بل قاده إلى مزيد من العزلة والعنف، فالعلاقات التي أقامها مع النساء الغربيات لم تكن علاقات قائمة على التواصل الإنساني، بل مساحات صراع تداخلت فيها الرغبة بالسيطرة والانتقام والادعاء الثقافي.
تقدم الرواية هنا نقدًا مزدوجًا، فهي لا تكتفي بتفكيك النظرة الغربية الاستشراقية، ولا تبرئ الذات الشرقية من مسؤوليتها عن التشوّه الذي لحق بها، فمصطفى سعيد الذي حاول أن يقلب معادلة القوة انتهى إلى تبني منطق الهيمنة ذاته، مستخدمًا الجسد والمعرفة واللغة أدوات للصراع، وبهذا يتحول من نقيض للاستعمار إلى صورة أخرى منه، هذه الرؤية تمنح الرواية عمقًا فكريًا يجعلها تتجاوز القراءة الثنائية المبسطة.
تقوم البنية السردية للرواية على التداخل بين صوت الراوي وصوت مصطفى سعيد عبر تقنية الاعتراف والوثيقة والذاكرة، فالغرفة السرية التي يتركها مصطفى خلفه تمثِّل ذاكرة مغلقة وماضيًا لم يُواجَه، وهي رمز للاوعي الذي يستمر في التأثير حتى بعد الغياب، هذه الغرفة بما تحويه من كتب ووثائق تكشف أن محاولة طي الصفحة دون مواجهة حقيقية ليست سوى تأجيل للانفجار.
تضيف شخصية حسنة بنت محمود بعدًا اجتماعيًا مأساويًا للنص، فهي تمثِّل المرأة المحلية التي تجد نفسها محاصرة بين تقاليد صارمة وصمت جماعي وعجز عن التعبير، ومصيرها العنيف في نهاية الرواية يكشف هشاشة البنية الاجتماعية وعجزها عن حماية أفرادها في ظل التحولات العميقة التي فرضها الاحتكاك بالعالم الحديث، ومن خلال هذه الشخصية يوسع الطيب صالح دائرة السؤال من الفرد إلى المجتمع.
تتميز لغة الرواية بقدرتها على الجمع بين الشعرية والوضوح، وبين العمق والبساطة دون افتعال، فالمكان يحضر بقوة، والنيل ليس مجرد عنصر طبيعي، بل رمز للحياة والاستمرار والموت في الوقت ذاته، كما تظهر القرية بوصفها فضاءً حميميًا، وفي الوقت نفسه مساحة تضج بالتناقضات والصمت والسلطة الخفية، هذا الحضور المكاني يعمّق البعد الرمزي ويجعل النص مشبعًا بالدلالة.
تشكّل النهاية المفتوحة للرواية، حيث يجد الراوي نفسه يصارع الغرق ويطلق صرخة طلب النجاة، لحظة وعي حاسمة تعيد توجيه المعنى من سيرة مصطفى سعيد إلى خيار الراوي نفسه، فهذه الصرخة تعبير عن الرغبة في الحياة وعن رفض السير في طريق الفناء الذي انتهى إليه الآخر، وكأن الرواية تشير إلى إمكانية الاختيار رغم ثقل التجربة ورغم قسوة الأسئلة.
في المحصلة تقدّم موسم الهجرة إلى الشمال نصًا إشكاليًا يرفض اليقين السهل ويقاوم القراءة الواحدة، ويضع القارئ أمام أسئلة معلقة حول الهوية والمعرفة والقوة والعلاقة مع الآخر، وهي ليست رواية عن الشرق والغرب فقط، بل عن الإنسان حين يفقد توازنه الداخلي، وحين تتحول المعرفة إلى أداة قهر، وحين ينفصل الوعي عن القيم، ولهذا بقيت الرواية حاضرة ومتجددة لأنها كُتبت بصدق فكري ووعي عميق بتعقيد التجربة الإنسانية دون أحكام جاهزة ودون حلول مغلقة.