كوثر فارس
كان المساء، في تلك المدينة البعيدة عن اسمي، يتدلّى لا كوقتٍ يمرّ، بل كحالةٍ نفسيةٍ تُفرض على الأشياء. لم يكن الليل قادمًا على عجلة، بل كان يتقدّم بخطواتٍ محسوبة، كمن يعرف أن ما ينتظره ليس نومًا، بل مواجهة.
السماء بدت منخفضة، كأنها اقتربت لتسمع همس البشر، لكنها ظلّت صامتة. الضوء لم يكن ضوءًا، بل محاولة خجولة لتخفيف ثقل الظلال. كل شيءٍ كان يوحي بأن العالم هنا يعيش على الحدّ الأدنى من الدفء، الحدّ الذي يسمح بالاستمرار دون أن يَعِد بشيء.
في محطات القطارات، لا يمرّ الناس فقط، بل تمرّ أعمارٌ كاملة. هناك، تتكثّف فكرة الغربة حتى تصبح ملموسة. الغربة لا تُرى في الحقائب ولا في جوازات السفر، بل في طريقة الوقوف، في نظرة العين حين تفتّش عن شيءٍ مألوف فلا تجده، في اليد التي تُمسك الهاتف بلا مكالمة، وفي الجسد الذي ينتظر دون أن يعرف ماذا ينتظر بالضبط.
كنتُ واحدة من هؤلاء الذين يقفون في المنتصف: لا أنتمي تمامًا إلى المغادرة، ولا أملك يقين الوصول.
دخلتُ القطار، فاستقبلني ذلك الصمت الثقيل الذي لا يعني غياب الأصوات، بل كثرتها إلى حدّ العجز عن التمييز. صوت الأبواب، وقع الخطوات، احتكاك المعاطف، أنفاس متعبة.. كلها تصنع ضجيجًا بلا حوار. المقاعد مصطفّة، والوجوه متقاربة، لكن المسافات النفسية شاسعة. كل إنسانٍ هنا يحمل قصةً لا يريد روايتها، أو لا يجد من يسمعها دون أن يحاكمها.
وسط هذا المشهد، كان هناك رجلٌ مسنّ، لا يلفت الانتباه بقدر ما يُعيد ترتيب الانتباه. حضوره لم يكن طاغيًا، لكنه كان ثابتًا، كأنه نقطة اتّزان في معادلةٍ مضطربة. جلس بهدوء، لا يحتلّ المساحة ولا ينسحب منها. اختار مقعدًا قرب النافذة، لا ليحدّق في الخارج، بل ليترك للداخل مجالًا للتنفّس. في هيئته شيءٌ من البساطة التي لا تعني الفقر، وشيءٌ من الأناقة التي لا تطلب الإعجاب.
وجهه كان دفترًا مفتوحًا لمن يعرف القراءة. التجاعيد لم تكن تشقّقًا، بل سطورًا كتبتها الأيام بعناية. لم يكن في ملامحه ما يوحي بالهزيمة، ولا ما يدّعي الانتصار. عيناه تحملان صفاءً نادرًا؛ صفاء من خَبِر الخسارة وتجاوزها دون أن يتحوّل إلى قاسٍ أو ساخر. ابتسامته، حين ظهرت لاحقًا، لم تكن ردّة فعل، بل حالة دائمة، كأنها نتيجة مصالحة طويلة مع الحياة كما هي، لا كما ينبغي أن تكون.
كان يجلس بطريقة تحترم الجسد، كمن يعرف حدوده ولا يخاصمها. يداه ساكنتان، لكن السكون فيهما لم يكن فراغًا، بل استعدادًا. حين أخرج كتابًا صغيرًا من جيبه، لم يفتحه فورًا. لمس الغلاف، أعاده إلى مكانه، واكتفى بالنظر أمامه. في تلك الحركة البسيطة، قرأتُ الكثير: احترامٌ للصمت، ووعيٌ بأن بعض اللحظات لا تحتاج إلى كلمات.
بعد دقائق، صعد شابٌّ إلى القطار. لم يحتج إلى تعريف. التعب كان بطاقة هويته. خطواته متردّدة، لا لأن الأرض غير ثابتة، بل لأن الثقة بالنفس كانت قد تآكلت. جلس وهو يحمل جسده أكثر مما يحمله المقعد. وجهه شاحب، عيناه غائرتان، وفيهما ذلك النوع من التعب الذي لا يُشفى بالنوم وحده. كان واضحًا أنه انتظر طويلًا في المحطة، أطول مما يجب، وأطول مما يحتمل.
هذا الشاب لم يكن فقيرًا فقط، بل كان مستنزفًا. الجوع في ملامحه لم يكن جوع المعدة وحدها، بل جوع الأمل، جوع الاحتواء، جوع أن يشعر بأن وجوده غير فائض عن الحاجة. ثيابه بسيطة، وربما لم تكن مناسبة تمامًا للبرد، لكن الأشدّ قسوةً من البرد كان ذلك الإحساس الداخلي بأن العالم لا يترك لك مكانًا إلا على الهامش.
جلس بالقرب من الرجل المسنّ، دون أن ينظر إليه. لم يكن في داخله ما يسمح بالتواصل. القطار انطلق، والنوافذ بدأت تعرض مشاهد متقطّعة من العتمة والضوء. في هذا التلاصق القسري بين الأقدار، لم يحدث شيءٌ في البداية. لا كلمات، لا إشارات. لكن الأشياء العميقة لا تبدأ بضجيج.
الرجل العجوز كان يلاحظ. لا بنظرة فاحصة تُشعر الآخر بأنه مراقَب، بل بانتباهٍ إنسانيّ صامت. كان يقرأ الشاب كما يقرأ من يعرف لغة الألم دون أن يحتاج إلى ترجمة. ربما رأى فيه نفسه في زمنٍ بعيد، أو شخصًا فقده، أو ببساطة إنسانًا يستحق أن يُرى. الرؤية هنا ليست فعل عين فقط، بل فعل ضمير.
ترك الرجل للصمت حقّه. الصمت أحيانًا أصدق من الكلام، لأنه يختبر النوايا دون ضغط. ثم، بعد لحظةٍ محسوبة، مال برأسه قليلًا وقال بصوتٍ هادئ، لا يحمل شفقة ولا فضولًا:
«الليل هنا طويل، لكنه لا يأكل من العمر أكثر مما نعطيه».
لم تكن جملةً موعظة، ولا سؤالًا مباشرًا، لكنها كانت نافذة. الشاب رفع رأسه، نظر إليه، تردّد، ثم اكتفى بإيماءةٍ خفيفة. الاعتراف الأوّل لا يحتاج إلى شرح.
في إحدى محطات التوقّف القصيرة، نهض الرجل ببطء. الحركة عنده كانت مدروسة، كأن الزمن يمشي معه لا ضده. تقدّم خطوتين، توقّف عند مقعدٍ فارغ، أخرج من جيبه ورقةً صغيرة مطويّة بعناية، وضعها على المقعد، ثم عاد إلى مكانه. لم ينظر حوله، ولم ينتظر ردّة فعل. الفعل كان مكتفيًا بذاته.
بعد دقائق، لاحظ الشاب الورقة. تردّد قبل أن يمدّ يده. التردّد هنا ليس شكًّا في النية فقط، بل خوفًا من الخيبة. فتح الورقة ببطء، كمن يخشى أن يجد فراغًا جديدًا. في الداخل، كانت هناك ورقة نقدية، وملاحظة قصيرة بخطّ هادئ: «ما يكفي لليلةٍ واحدة قد يكون بدايةً ليومٍ آخر».
لم يكن المبلغ كبيرًا، لكنه لم يكن صغيرًا في تلك اللحظة. كان كافيًا ليكسر دائرة العجز، ليعيد ترتيب الاحتمالات. نظر الشاب حوله، فالتقت عيناه بعيني الرجل. لم يكن في النظرة انتظار شكر، ولا استعراض فضل. كانت نظرة احترام خالص، كأنها تقول: أنت لست محتاجًا للإنقاذ، بل للدعم فقط.
جلس الشاب مستقيمًا. تنفّسه تغيّر. لم تُحلّ مشاكله، ولم تتبدّل حياته فجأة، لكن شيئًا ما انكسر في داخله: ذلك الجدار السميك من اليأس الذي كان يمنعه من رؤية أي مخرج. الورقة المطويّة لم تكن مالًا فحسب، بل سؤالًا دافئًا في مدينةٍ من الجليد.
كنتُ أراقب هذا التحوّل الصغير الذي يحدث بهدوء، دون تصفيق، دون شهود كُثر. التحوّل الذي لا تُرصده الكاميرات، لكنه يُغيّر مسار حياة. تذكّرتُ كيف يمكن للمدن الباردة أن تُخفي دفئها في زوايا غير متوقعة، وكيف يمكن لوجهٍ متعب أن يكون مرآة أملٍ لوجهٍ آخر. المحطة، التي بدت في البداية مجرد مكان عبور، تحوّلت إلى مسرحٍ لمعنى إنسانيٍّ خالص.
ذلك السؤال لم يُطرح بصوتٍ عالٍ، ولم يُكتب بحروفٍ واضحة، لكنه كان حاضرًا بقوة:
ماذا لو لم تكن وحدك كما تظن؟
أعاد الشاب طيّ الورقة ببطء، بعنايةٍ تفوق ما تقتضيه قيمتها المادية. لم يضعها في جيبه كما يُخبّأ المال، بل كما تُحفظ الرسائل القديمة، تلك التي لا تُقرأ كثيرًا، لكنها تُطمئن صاحبها بأنها موجودة. في تلك اللحظة، لم يكن يفكّر في الطعام فقط، ولا في الليلة القادمة، بل في أمرٍ أكثر عمقًا: في إمكانية الاستمرار دون أن يشعر أنه متسوّل معنوي على أبواب الحياة.
رفع نظره نحو النافذة. المشهد في الخارج لم يتغيّر: ظلامٌ متقطّع، أضواءٌ بعيدة، محطات تمرّ بلا أسماء. لكن الداخل تغيّر. الداخل هو ما كان يعنيه الرجل العجوز منذ البداية. لم يمنحه حلاً، بل أعاد إليه القدرة على السؤال. والسؤال، حين يأتي في وقته، يصبح شكلًا من أشكال الدفء.
أما الرجل الكبير، فقد عاد إلى جلسته الأولى، كأن شيئًا لم يحدث. لم يراقب النتيجة، ولم ينتظر أثرًا مرئيًا. كان يعرف، بحكمة من خبر الحياة طويلًا، أن بعض الأفعال لا تُقاس بردود الفعل، بل بالمساحة التي تتركها في الروح. فتح كتابه هذه المرة، لا ليقرأ الكلمات، بل ليمنح المشهد فرصة أن يستقرّ دون تدخّل.
هيئة الرجل، صمته، طريقته في الجلوس، كلها بدت فجأة وكأنها لغة كاملة. لغة تقول إن الاحترام لا يحتاج إلى إعلان، وإن التضامن لا يصرخ، وإن أقوى أشكال العطاء هي تلك التي لا تجرح كرامة المتلقّي. كان حضوره أشبه بنغمةٍ منخفضة في سيمفونية معقّدة، لا تُسمع وحدها، لكنها تمنح اللحن توازنه.
في تلك اللحظات، بدأ معنى آخر يتشكّل بهدوء. لم يعد القطار مجرد وسيلة نقل، ولا المحطة مجرد مكان انتظار. صار المكان مختبرًا إنسانيًا، تُختبر فيه الملامح لا بوصفها أشكالًا، بل إشارات. بعض الوجوه تحمل قسوة المدن الباردة، وبعضها الآخر يحمل قدرة غريبة على إذابة هذا البرد دون نار. هناك من يمرّون ولا يتركون أثرًا، وهناك من يتركون فيك دفئًا لا يُرى.
الملامح، حين تُقرأ بعمق، تصبح سيمياء حقيقية. ليست ملامح الوجه فقط، بل ملامح الفعل: كيف يجلس الإنسان، كيف ينظر، كيف يختار كلماته، وكيف يصمت في اللحظة المناسبة. الرجل العجوز لم يقل للشاب: «لا تيأس»، لكنه فعل ما هو أصدق؛ تصرّف وكأن الأمل ما زال ممكنًا، وكأن الشاب يستحق معاملة إنسانية كاملة، لا إسعافًا عابرًا.
ومع تقدّم الرحلة، صار القطار أقلّ برودة، لا لأن التدفئة اشتغلت، بل لأن شيئًا ما تحرّك في فضائه الداخلي. لم يكن التحوّل جماعيًا، ولم ينتبه له الجميع، لكنه كان كافيًا ليُحدث فرقًا. هكذا تعمل الإنسانية: لا تغيّر العالم دفعة واحدة، لكنها تغيّر إنسانًا واحدًا، ثم تترك الباقي للزمن.
حين أعلن المذياع عن اقتراب القطار من محطته التالية، بدأ الركّاب يستعدّون للنزول. الحركة عادت، الأصوات ارتفعت قليلًا، لكن المشهد الأساسي كان قد اكتمل. نهض الرجل العجوز، رتّب معطفه بنفس الهدوء الذي جلس به، وألقى نظرة أخيرة لا تحمل وصاية ولا وداعًا معلنًا. كان يعرف أن دوره انتهى عند هذا الحدّ. بعض الأدوار الإنسانية لا يُعاد تمثيلها، لأنها تُؤدّى مرة واحدة فقط، في اللحظة الصحيحة.
نزل الرجل العجوز، وابتلعته المحطة كما يبتلع الليل آخر أشعة الشمس في مدينة لم تعد تعرف وجوهها، لكنه يعرف قيمة وجودها في اللحظة الصحيحة. بقي الشاب في مكانه أطول مما ينبغي، ليس لأنه ينتظر، بل لأنه يحاول استيعاب كل ما حدث: حركة هادئة، نظرة صامتة، ورقة صغيرة وضعت جسرًا على هوةٍ واسعة من اليأس. ظل الشاب مستندًا إلى المقعد، وأصابع يده تتلمّس طيّ الورقة كما لو كانت الخيط الذي يربطه بالعالم من جديد. كان يعلم، دون أن يُعلن لنفسه، أن الحياة قد تقدّم له فرصة للبدء من جديد، حتى ولو كانت صغيرة، حتى ولو كانت بلا ضجيج.
نظر حوله إلى الوجوه الأخرى، إلى الركاب الذين لا يعلمون شيئًا عن التحوّل الذي حدث في قلبه. لم يتغير العالم من حوله، لكن داخله كان قد عاد للحياة؛ عاد إلى حالة اليقظة الإنسانية التي تخبره بأن الغربة ليست حكمًا نهائيًا، وأن الشتاء في المدينة، مهما بدا طويلًا وجافًا، لا يمنع من ميلاد دفء خفي بين البشر. وكل شيء بدا فجأة أقل قسوة، ليس لأن الظروف تغيرت، بل لأن عينًا أخرى، صامتة، قد رأت فيه الإنسان قبل أن يراه هو نفسه، وأعادت له كرامته.
في تلك اللحظة، بدا المشهد كله وكأنه صفحة واحدة من كتابٍ قرأه العالم بصمت: الرجل العجوز هو السطر الذي لا يظهر في النصوص، لكنه يجعل الرواية مكتملة، والشاب هو الورقة التي لم تكتب بعد، لكنها قادرة على حمل معنى كبير في لحظة بسيطة. كل التفاصيل: ابتسامة صامتة، حركة يد، ورقة مطوية، صمت محترم، كلها تصنع لغة لا تحتاج إلى ترجمة، لغة تفهمها الروح قبل العين.
أعدتُ تذكّر ذلك المساء، في تلك المدينة البعيدة عن اسمي، حين كان الظلام ينهار ببطء أمام نور صغير خفي. تذكرت كيف يمكن لموقف واحد، لفعل بسيط، أن يصنع أملًا كاملًا، وأن يعيد ترتيب العالم من الداخل قبل الخارج. تذكرت أن التضامن الحقيقي لا يُعلن عن نفسه، ولا يحتاج إلى شعارات، بل يولد في صمت، في فعل، في نظرة تعرف متى تعطي ومتى تترك. وفي هذه اللحظة، أيقنتُ أن ما رأيته ليس مجرد حكاية في قطار، بل شهادة على قدرة الإنسان على أن يكون للإنسان، حتى في أبرد المدن وأقسى اللحظات.
وبينما غادر القطارُ المحطة، تاركًا وراءه صمت الليل الممتد شعرتُ بأنني أحمل أكثر من ذكرى: أحمل إحساسًا بأن بعض الابتسامات تحمل قوة أعظم من أي إعلان، وأن بعض اللمسات الإنسانية تُعيد للمدينة روحها الضائعة. الرجل العجوز لم يغادر المكان، بل ظل في ذهني، كصمتٍ ممتلئٍ بالمعنى، كدرسٍ خفي في القدرة على رؤية الآخر، كإشعاعٍ صامت يدفئ قلب كل من يمرّ بمحطات الحياة.
كانت تلك الليلة هي البداية الحقيقية لكل ما سيأتي؛ عدتُ من تلك الرحلة وأنا أحمل العنوان في داخلي دون أن أنطقه. رأيت كيف يمكن لابتسامةٍ أن تعيد ترتيب محطة، وكيف لملامحٍ هادئة أن تقرأ مدينةً كاملة، وكيف لسؤالٍ بسيط أن يذيب طبقاتٍ من الجليد المتراكم في الكيان. لم يكن المشهد استثناءً، بل احتمالًا مفتوحًا أمام كل من يختار أن يجلس بالطريقة الصحيحة، وأن يستمع بالقدر الكافي، وأن يترك ورقةً مطوية حيث ينبغي.
وحين أفكّر الآن، لا أستحضر صوت القطار، ولا إعلان المواعيد، ولا شعور الانتظار، بل أستحضر ذلك الفراغ الصغير على المقعد، الفراغ الذي صار جسرًا. أستحضر يدًا تعرف متى تعطي، ومتى تنسحب دون ضجيج. أستحضر شابًا صعد قطارًا وهو يحمل شيئًا أثمن من التذكرة. وأستحضر مدينةً جليديةً سمحت، لبرهة، بأن يمرّ فيها دفءٌ إنسانيٌّ خالص.
هكذا تعلّمتُ أن بعض القصص تبدأ بابتسامة، وتستمرّ بسيمياء خفية، وتنتهي حيث يبدأ الآخر من جديد، وأن العودة ليست دائمًا إلى المكان، بل إلى المعنى.
** **
- كاتبة وباحثة قانونية وحقوقية، مغربية، سفيرة عالمية للنوايا الحسنة لحقوق الإنسان لدى منظمة FAAVM الكندية.