حامد أحمد الشريف
وقد انتهيت من قراءة القصة القصيرة «كونزالو» الطويلة نسبيًا، أو نوفيلة «كونزالو» القصيرة نسبيًا التي أدرجت ضمن مجموعة من القصص متفاوتة الطول ضمها كتاب «أنشودة الصقر» للكاتب الروسي الكبير مكسيم جوركي؛ شعرت حينها بقيمة هذه النوفيلا التي لم تتعدَّ صفحاتها 100 صفحة من القطع المتوسط إذ كانت أبعادها السردية لافتة، وزوايا تناولها للحدث مختلفة، وبنيويتها متقنة، وأسلوبها الكتابي رائعًا.
ولقد نسجت حواراتها بعناية فائقة، وشُيِّدت مشاهدها على مكث، ولم تخلُ أوصافها من الجزالة والاختزال والتكثيف، وتخلل كل ذلك بعض الصور الشاعرية المرهفة، وسيميائيات مدهشة، وعمق فلسفي غني جدًا.
كل ذلك جعلني لا أستطيع استبعادها من أن تكون رواية مكتملة الأركان، لولا محدودية أبطالها، ونقاط تبئيرها المعدودة، وكذلك اعتمادها أحداثًا أو صراعات يجمعها حدث أكبر تتفرع من خلاله وكأنها حدث واحد، خلاف صغر مساحة السرد وقلة الأمكنة، ما يجعلنا أمام مواصفات القصة القصيرة الكلاسيكية، لكن عمقها وقلقها الفلسفي والفكري وارتباطها الكبير بقارئها، يجعلك لا تعرف أين تضع مرساتك، فلا تجد مناصًا من ترك كل ذلك جانبًا والتضلّع من هذا الجمال الصافي.
ولعل مما ظهر لي بداية أننا أمام حكاية فيما يبدو لا تختلف كثيرًا عن حكاية زوربا حيث المثقف والجاهل في مقابل القارئ والأميّ، لكن ذلك لن يمنعنا من رؤية الفرق الكبير بين هذا وذاك، فالتناول بدا مختلفًا كليًا وكأن الحظ لعب لعبته معي حتى أتبين الفرق فيما بين المؤلفين الكبار، من حيث الأدوات السردية المختلفة وإن تشابهت أفكارهم. ففي الوقت الذي تخفى «نيكوس كازانتزاكي» ولم يظهر بصورته الحقيقية داخل السرد، وترك أمر ظهوره من عدمه لتقديرات القراء والنقاد؛ نجد أن «مكسيم جوركي» لم يتحرج من الظهور خلال السرد، ومنح اسمه للمثقف أو قارئ الكتب إن أردنا أن نكون أكثر دقة.
في ظني إن ظهور مكسيم باسمه حسم الجدل حول هذه النقطة أو لنقل إنه لربما أراد من القارئ تجاوز هذه المحطة والانتقال إلى المحطة التالية الأكثر أهمية. وكان ظهور هذا الاسم «مكسيم» قد تكرر في عدد من قصص المجموعة، ما يعني أنه تعمد تهميشه ودفع القارئ بالفعل للاهتمام بأمور جوهرية أخرى، وفي كل الأحوال سواءً أكان مجرد اسم أم هو جوركي بالفعل يروي مواقف من سيرته الشذرية الذاتية، فإن ما يعنينا من ذلك كله أننا أمام راوٍ داخليِّ مشارك في الحدث، ولكن بحيادية، ويكاد يكون واصفًا فقط، حيث لم يكن له ذلك التأثير الكبير في مسار الأحداث، فقط استُخدم لتسليط الضوء على الشخصية الرئيسة، والمساعدة في تنامي الحدث والتلاعب بعقده، ولم يحاول اقتسام البطولة أو إشغال القارئ به، بل كان غالبًا على الحياد تمامًا، فقط عليه الرصد والنقل وترك الحكم للقارئ الحصيف، أو لنقل إنه حياد إيجابي يمكن تشبيهه بدافع العربة حيث لا يمكن الاستغناء عنه في تحديد خط السير وتجنب العثرات وامتلاك قرار الوقوف والانطلاق، وتحديد مقدار السرعة الممكنة، في وقت كانت العربة هي من تتحمل عبءَ حمل البضائع ونقلها وهي من تمتلك الإطارات المدولبة، والأرضية والجدران الخشبية التي تحتضن الأشياء وتمتد منها الأيادي الخشبية التي تسمح بدفعها.
هذه السلبية التي نصفها ظهرت من وقت معرفتهم ببعض حين عرض عليه «كونزالو» خطاب حبيبته وطلب منه قراءته له ومن ثم كتابة رد عليه، وانتقاده ما كتب لاحقًا رغم أنه لا يحسن القراءة ولا الكتابة، والطريف أنه كان مصيبًا في تخطئته. يقول ص16: (فقال كونزالو وهو يحك رأسه:
-»ه-..م..مْ.. لست كاتبًا جيدًا، فلا عواطف في خطابك.. ولا دموع، وإلى جانب ذلك فقد طلبت منك أن تجعلني أعنّف نفسي بلغة شديدة وأنت لم تفعل».) انتهى كلامه.
وكان في ذلك إشارة مبكرة إلا ما ينتظرنا في قادم السرد من مواقف تجمع بين الأميّ واسع الثقافة الحياتية؛ الذي جعل لنفسه قيمة كبيرة رغم جهله بالقراءة والكتابة، في مواجهة المتعلم قليل الخبرة الحياتية الذي لم تتشكل شخصيته الإنسانية بأبعادها المختلفة بعد، وعد ذلك محطة من أهم المحطات التي سنمضي معها لاحقًا، وكما يتراءى لنا هنا فإنها تختلف كليًا عن التضاد الذي وقفنا عليه في «زوربا اليوناني» وشكل بعدًا مختلفًا، ولعل ذلك ما جعلني أوقف كتابتي على هذه القصة فقط ولا أتطرق لبقية القصص الاثني عشر التي حوتها هذه المجموعة (أنشودة الصقر) الصادرة عن دار أقلام عربية في 302 صفحة من القطع المتوسط بترجمة محمد العزب موسى الذي يؤخذ عليه في ترجمته استخدام بعض المفردات المصرية العامية التي لا يمكن أن نلصقها بهكذا كتاب، مثل قوله ص81: (وهم يصيحون جماعة واحدة: واحد اثنين هيلاهوب!) وقوله أيضًا: (ويتصاعد من بينهم صوت غناء مرتفع:
«يا رجال.. الحر ولعة. يا رجال الشغل ولعة. هيلا هوب هيلا. الأولى الثانية هيلا.) انتهى كلامه. كذلك قوله ص86: (-»سوف تطفح الدم يا متريس»). وكذلك ضعف صياغته العربية للمادة المترجمة إذ كان يجدر به إظهار قيمة اللغة العربية بالتزامن مع قيمة المادة المترجمة.
من المهم بداية القول إن مكسيم الفتى الراوي لهذه الحكاية بضمير المتكلم المشارك، لم يحاول إظهار نفسه على الإطلاق بمعنى لفت نظر القارئ لفلسفة محددة أو حتى انعكاس معين لشخصيته، فقط كان عليه وصف ما يحدث أمامه والاستجابة لرغبات المشرد الجاهل وقت أن يجري حوارًا معه، أو يطلب منه طلبًا ما، وإن استثارته بعض المواقف الحادة من «كونزالو» باتجاه فتاته أو تركه للعمل بالمخبز، ودفعته للاعتراض عليها كما سيأتي لاحقًا، ولكنها لا تعد مشاركة بالمعنى المتعارف عليه، وإنما -كما ذكرنا سابقًا- مجرد توجيه للأحداث وإيصال مدلولاتها.
فالواقع أن المؤلف أظهر لنا براعة كبيرة رغم ضيق المساحة ومحدودية أبطال العمل إذ لم يكونوا سوى الراوي الداخلي الفتى مكسيم، والفتاة العاهرة، والبطل كونزالو، وبعض الأدوار الثانوبة كصاحب المخبز، والخباز القديم، وأصدقاء الحانة، لا شيء تقريبًا غير ذلك. وهي حكاية لا تحمل صراعات متفرعة ومتعددة بل صراعًا واحدًا يستقبلنا في البداية ويرافقنا حتى النهاية، عندما يطلع مكسيم على خبر منشور في إحدى الصحف يفيد بانتحار «كونزالوا» أثناء سجنه، وكما يحدث عادة في السرديات التي تبتدئ من نهايتها بتقنية الفلاش باك أو التراجع للخلف، بدأ الفتى يستعيد حكاية هذا الرجل، واسمحوا لي بنقل خبر الصحيفة كاملًا لأهميته يقول ص5:
(كنت أتصفح إحدى الصحف، فوقع نظري على اسم «كونزالو»، فاسترعى انتباهي على الفور وهذا ما قرأته: «في الليلة الماضية في الزنزانة رقم 3 بالسجن المحلّي، شنقَ رجلٌ نفسه داخلَ المدخنة، والمنتحر من بلدة ميروم، اسمه الكسندر إي?انوفيتش كونزالو، وسنّه أربعون عامًا، وكان قد قبض عليه في «بسكوف» بتهمة التشرد، وقد أرسل المنتحر إلى قريته الأصلية، وتؤكد السلطات في السجن أنه كان رجلًا هادئًا مسالمًا متأملًا، وطبقًا لتقرير طبيب السجن يعزى انتحاره إلى مرض الملانخوليا») انتهى كلامه.
وكما تلاحظون فالنص حوى مجموعة من الإشارات التي استخدمها المؤلف لاحقًا في سرد حكايته كاملة منها عبارة «متأملًا» وكانت إحدى نقاط التبئير التي أعتمدها للشروع في حكايته، فالفتى مكسيم بدأ يتحدث عنه من هذه النقطة تحديدًا حيث يقول ص5: (شعرت أنني أستطيع أن ألقيَ مزيدًا من الضوء على الأسباب التي أدت بهذا الرجل المتأمل لأن يضع حدًّا لحياته على هذا النحو. لقد كان رجلًا ممتازًا والإنسان لا يستطيع أن يلتقي بمثله كثيرًا في العالم!) انتهى كلامه.
وإذا ما عدنا إلى رواية «زوربا اليوناني» نجد أن الجاهل كان دائم التهكم على المثقف ويسخر من كتبه التي لا تضيف له شيئًا من أسرار الحياة التي يتكفل بها الشارع، بينما كان «كونزالو» على العكس من ذلك تمامًا حيث أظهر حاجته إلى القراءة والكتابة وتمنيه ألَّو كان يستطيع إتقانهما، وأفصح عن براعة في الغوص داخل النصوص واستخراج الدر الكامن في أعماقها، خلا عن تأثره الكبير بصراعاتها وأحداثها وتماهيه معها. ما يضعنا أمام معادلة جديدة مختلفة كليًا، وزاوية سرد إبداعية تنقلنا إلى الإنسان الأميّ الذي لا يخفي حاجته إلى العلم والمعرفة ويقر بأن منبعهما الكتب. وكانت هذه الشرارة قد انطلقت بشكل جميل ومبرر وهو ما يصفه مكسيم قائلًا ص 26: (وفي أحد الأيام أخذت من صندوقي كتابًا. وجلست أقرأه إلى جانب النافذة، وكان كونزالو يغفو فوق إحدى المعاجن، ولكن خشخشة الأوراق فوق رأسه، وأنا أقلب الصفحات. جعلته يفتح عينيه ويتمتم:
- «ما موضوع كتابك»
فأخبرته وعاد يسألني:
- «هل تقرأه لي؟») انتهى كلامه.
وهكذا انطلقت حكايته مع حب النصوص المكتوبة، واستمتاعه بسماعها، رغم أنه لا يقرأ ولا يكتب. وهي حالة رائعة أجاد المؤلف في وصفها، فهناك بالفعل من الأميين من يظهرون ولعهم بما يمكن التقاطه من الكتب خاصة إذا ما تعلق الأمر بالقصص والحكايات المثيرة، كما كان يُفعل قديمًا عندما يتحلق القرويون حول رجل القرية المتعلم، ويطلبون منه سرد الحكايات الشفاهية أو المقروءة ويطلقون عليه الحكواتي.
?وكان تأثر «كونزالو» بما يسمعه من «مكسيم» كبيرًا، يشير إلى مستمع مختلف، استطاع من البداية معرفة أثر الإلقاء الجيد وعلاقته بقيمة الحكاية، وهي مرحلة متقدمة لا تنسجم مع جهله لكنها تشير بذكاء إلى الحالة المختلفة التي نصفها، حيث إن «ساشا» -كما يلقبونه- يُظهر لنا شخصية مختلفة، صنعت بعناية فائقة لا تنسجم مع حجم الحكاية البسيط، وتجعلنا نشعر وكأننا أمام رواية عظيمة، يشكل الإنسان داخلها قيمة كبيرة، ما بين مكسيم البسيط كما يصفه «ساشا» وبين «ساشا» نفسه الجاهل العاشق للكتب. نرصد ذلك في قوله ص28: (وهمس أخيرً:
- «ما أجمل قراءتك لهذا الكلام! إنك تتحكم في صوتك حتى يبدو أن كل شخص في القصة حيّ يتكلم. أبروسكا وليلا، ما أغباهما! إنهما مضحكان إلى حد بعيد. ...إلخ) انتهى كلامه.
ومن الأشياء الرائعة التي دونت في هذه النوفيلا؛ العلاقة الحميمية التي ربطت «كونزالو» من البداية بالكتب. وصورها المؤلف ببراعة شديدة في قوله ص31: (وأخذ «كونزالو» الكتاب، وصار يقلبه بين يديه متفحّصًا، ثم فتحه وأغلقه مرة أخرى، ووضعه جانبًا، وتنهّد من أعماق صدره ثم قال في صوت خفيض:
- ياله من شيء عميق! هاهو ذا رجل يكتب كتابًا.. لا شيء سوى أوراق عليها علامات صغيرة يكتبها هو! وهل مات هذا الرجل؟»
فقلت:
- «نعم»
- ها هو قد مات، ولكن كتابه بين أيدينا، يقرأه الناس.. ينظر شخص إليه وينطق كلمات مختلفة، وشخص آخر ينصت... الخ) انتهى كلامه.
وقوله أيضًا وهو يطري الكتب ويتحسر على أميّته ص35: (ما أسهل ما شرحت الأمر! كيف استطعت أن تعرف كل ذلك، من الكتب؟ لقد قرأت منها الكثير بكل تأكيد.. آه لو كنت أنا قد قرأت هذا القدر!) انتهى كلامه.
وهكذا نرصد تشكل شغفه بالكتب وتأثره الكبير بها، بل إن «كونزالو» وصل مرحلة متقدمة من التلقي الإيجابي ما يعد واقعًا مختلفًا يبين لنا العلاقة المرتبكة بين الطرفين، وقد ظهر لاحقًا تأثره الشديد بما كان يسمعه من مكسيم وهو يقرأ عليه الكتب، ومحاولته اكتشاف ذاته من خلالها. حيث كان يعرض باستمرار فكره وسلوكياته على ما يستقيه من الكتب بالمشافهة. وهي حالة عجيبة تصور إبداع المؤلف في تناول حالة الأميّ مع القارئ من زاوية مختلفة تبتعد عن التناحر المعتاد، وتذهب باتجاه الحسرة على هذا الباب الرائع المغلق في وجوههم، بالضبط كما كان يفعل «كونزالو» الذي ظل على الدوام يذكر الكتاب ويحفظ له قيمته ويعلن حاجته للاستزادة من المعارف والحكايات التي يمكن استقاؤها منه، حتى وهو في أشد حالاته تيهًا وتشردًا وانغماسًا في مقارعة الخمر، وظهر أيضًا حفظه للحكايات التي يتلقاها منه بالمشافهة عن ظهر قلب، بل ويستشهد بها في المواضع المناسبة، كما ورد على لسانه وقت أن كان في الحانة مع أصدقائه المشردين ص75 في قوله:
(-»هذا هو صديقي، أيها الزملاء، إنه متعلم، فليحفظه الله! مكسيم، هل تستطيع أن تقرأ شيئًا عن ستينكا هنا في هذا المكان؟ ما أعجب الكتب التي لا نعرفها أيها الإخوان! أو تقرأ شيئًا من بيلا، ما رأيك فيها يا مكسيم؟ دماء.. ودموع، أيها الإخوان! بيلا.. لقد كان هو أنا.. أليس كذلك يا مكسيم؟ وسيسويكا أيضًا.. كان مخلصًا لله.. هذا هو التفسير من أجلكم») انتهى كلامه.
إنَّ «ساشا» لطالما عاد لنفسه وفكر بعمق في سلوكياته وتبريره لها، وإدارة حوار عميق مع نفسه استنادًا إلى ما كان يقرأه عليه مكسيم، مارس هذه المراجعات بينه وبين نفسه في كل حالاته، حتى وهو يكاد يغيب عن الوعي نتيجة إفراطه في الشراب، وقد توقدت هذه الحالة بفكرة خطرت له، عبر عنها بعمق مع بداية تعلقه بالكتب وقد وجد فيها ضالته، قائلًا ص 34: ( حسنًا؟ أنا لا أستطيع أن أعرف ما الأمر بالضبط، ولكنّي أعتقد أنه لو جاء أحد هؤلاء الزملاء الكتاّب وألقى نظرةً عليّ، فقد يستطيع أن يجد تفسيرًا لحياتي.. ألا يستطيع ذلك؟ ما رأيك؟) انتهى كلامه.
والتفسير الذي يبحث عنه، يتعلق بفلسفته حول أسباب سوئه وتشرده، إذ يرى أن لا علاقة له بالظروف الاجتماعية والأسرية والمعتقدات الدينية، بل هو صنائع يديه وقراراته التي عليه تحمل تبعاتها، وكان قد جابه مكسيم الذي لم يوافقه على ذلك، وحاول تسريته وتخفيف نبرة تأنبيه لنفسه، وقد شعر بأنه يبالغ في هذا التقريع الدامي. محاولًا إقناعه بفكرة أن العصاة هم ضحايا أكثر من كونهم مذنبون. وهي الفكرة المحورية التي أمتدت تقريبًا على مساحة السرد من وقت أن بدأت الحوارت بينهما، وأخذت أبعادًا فلسفية عميقة، عندما شرع ماكسيم في القراءة له، ووصلا إلى استعراض إحدى القصص الملهمة لأمير رجال الفولجا الأحرار»ستينكا رازين». وستينكا لمن لا يعرفه، شخصية ثورية من القرن السابع عشر، تشير إلى رجل ارتبط اسمه بالتمرد الشعبي والأساطير الشعبية، ثار في وجه دولة روسيا القيصرية وشكل مقاومة لها في مناطق نهر الفولغا والدون، ودفع حياته ثمنًا لذلك.
ولقد بلغ تأثر «كونزالو» مداه وهو يعيش عذابات ستينكا المناظل، كما يصفه ما كسيم في قوله ص43: ( كان يبدو كما لو أن «كونزالو» هو أخو رازين، وليس فرولكا هو الأخ، ويبدو كما لو أن هناك رابطة من الدم تتوغل في أحشاء ثلاثمائة من السنين، لتربط بين هذا الأفّاك و «ستينكا»... الخ) انتهى كلامه.
وكان قد وصل به الأمر مبلغه عند انهياره بشكل كامل نتيجة تأثره الكبير بأحداث القصة، نرصد ذلك في قوله ص44: (وجذب الكتاب من بين يديّ ورماه على الأرض بكل قوته، ثم هبط هو نفسه إلى جانب.. وأخذ يبكي وينتحب بصوت مسموع وقد أخفى رأسه بين ركبتيه، وظل يبكي و يمسح عينيه في سرواله الرخيص القدر.) انتهى كلامه.
ذروة هذا الصراع الفلسفي الجميل ظهرت حين استطاع المؤلف وضع «كونزالو» أمام الكتاب، ولم يعد الأمر بالنسبة له مجرد قصص يتلقاها بالمشافهة، وهي اللحظة التنويرية التي أغبط عليها المؤلف وقد شعرت أنه أبدع بحق في وصفها والإشارة إليها عند قوله ص44و45: وبعد قليل عاد كونزالو يقول وهو يلتقط الكتاب ويناوله لي:
(-اقرأها ثانية.. هل تفعل؟ أرني المكان المكتوب فيه عن الأسنان» فأشرت إليه، وثبت هو عينيه على السطور:
-»هل هذا هو المكتوب حقًا؟ بصق أسنانه في سيل من الدم؟ إن الحروف هنا تشبه غيرها من الحروف تمامًا.. يا إلهي! كم تعذب رازين! حتى أسنانه! وماذا بعد ذلك؟ هل سيقتلونه؟ شكرًا لله لو كانوا سيقتلونه في النهاية») انتهى كلامه.
من المناسب هنا، القول، إن المؤلف وفق في رسم العلاقة بين رجل وكتاب، وأطلعنا على شعوره المتنامي بقيمته رغم أنه لا يستطيع قراءته أو تهجئته، كحال أعمى أغرم بفتاة لم يرها في حياته، فقط شعر بجمالها من لمسها أو الاستماع إلى حديثها وأشغل خيالاته لرسم صورتها المتخيلة. وهذا النوع من العلاقات يمكن استخدامه كسيميائيات ذات مدلولات عميقة تتجاوز أحيانًا مراد المؤلف منها.
إنَّ الفلسفة التي اعتمدت في هذا الصراع الجميل بين «ماكسيم» و»كونزالو» حول قناعاته الشخصية، وأظهرت الكتب أبعادها؛ قُدمت في حوارات غاية في الجمال انطلقت شرارتها مع «ماكسيم» حين قال له بنفاد صبر ص35: (- «ليس لك أن تلوم نفسك، بل أنت ضحية خطأ لم ترتكبه.») انتهى كلامه.
وكان النقاش قد طال بينهما حتى وصل إلى ص39 وهما يختلفان حول فكرة أن المشرد يتحمل نتيجة عمله، وهو المتسبب الأوحد في تشرده، بإقرار «كونزالو» عن نفسه. حيث لم يجد -حسب قوله- شخصًا ينسب له أخطاءَه إلا هو. نقف على هذا المعنى في قوله ص72: (وفي أحد الأيام عندما سمعني -للمرة المئة- أشرح أفكاري عن إعادة تنظيم الحياة، هبَّ قائلًا:
- «اسكت.. لقد سمعت كل ذلك من قبل. ليست الحياة هي التي تستحق اللوم، ولكنهم الناس.. أتفهم؟ وهذا كل مافي الأمر.) انتهى كلامه.
تلك الحوارات على قيمتها إلا أنها لم تزح أي منهما عن قناعاته، إذ لم يزل «ماكسيم» على إيمانه المطلق بأن المشرد إنما هو نتيجة لمجتمع ظالم وليس لقرارات شخصية، بينما أصر «كونزالو» على تحمل المشرد لمآلاته. والجميل في هذا الحوار الماتع، محاولته وضع المشرد تحت الأضواء الكاشفة ومنحه فرصة التعبير عن نفسه بصورة بديعة وبأسلوب ينسجم مع طبيعة حياته، ويعيدنا ذلك إلى «زوربا» الجاهل الذي فاقت خبرته رئيسه المثقف، فنجد أننا هنا أمام حالة مشابهة إلى حد ما، ولكن الطرف الأخر «ماكسيم» لم يحمل نفس قيمة الرئيس إذ إنه مجرد شاب يافع لم يتجاوز عمره الثامنة عشرة، يهوى القراءة، وله معتقدات بسيطة يؤمن بها تُسَيِّرُ حياته، لا ترقى إلى أن تكون حالة ثقافية أو فلسفية أو فكرية، فسنه الصغيرة نسبيًا تقف حائلًا دون ظهورها، وهو على أية حال لم يبدِ شيئًا من ذلك، واصطدم بمشرد أنضجته الحياة. وهو ما نرصده في ص48 يقول ماكسيم:
(أدهشتني المعرفة العميقة للحياة التي لمستها في هؤلاء الناس الذين لفظتهم الحياة، وكنت أستمع إلى قصصهم بشغف، وكان «كونزالو» ينصت إليها أيضًا، ولكن فقط لينقد نظراتهم الفلسفية ويستدرجني إلى مناقشة حادة.) انتهى كلامه.
وكان المؤلف قد نجح في تعميق فهمنا وإحساسنا بشخصية «كونزالو» التي أظنها من أعقد الشخصيات التي قرأتها، إذ كانت شخصية ناقدة بشدة للذات وناقمة على نفسها، تتهيأ للدخول في مرحلة الاكتئاب المرضي الشديد المعروف قديمًا بـ «الملانخوليا» أو ما يسمى حديثًا بـ(Major Depressive Disorder with melancholic features) في وقت تشعر هذه الشخصية المضطربة بقيمة المعرفة وقدرتها على تهذيب السلوك رغم عدم امتلاكها لأدواتها، ولقد استطاع المؤلف تسليط الضوء عليها وهي في مفترق الطرق قبل وصولها للإصابة المرضية المحققة.
ولعل من جمال هذه النوفيلا رغم ضيق مساحتها، اكتنازها بكثير من الصراعات الملهمة التي يمكن استخدامها لإيصال كل مستهدفات العمل الفلسفية، في وقت بقيت محافظة على إثارتها وتشويقها السردي حتى إغلاق الحكاية الأساس المتعلقة بـ «كونزالو». من هذه الصراعات التي فردت لها مساحة لا بأس بها حكاية اجتماع «كونزالو» مع الفتاة «كابيتولينا» التي وصفها لـ«ماكسيم» قائلًا ص 17: («كابيتولينا؟ إنها صغيرة… لا تزال شابة في مقتبل العمر، من قرية ?يا?كا، ابنة أحد التجار، هجرت الحياة المستقيمة الضيقة، وبحثت عن الحياة العريضة.. السيئة، واستقرت أخيرًا في بيت للدعارة.) انتهى كلامه.
عد ذلك بالطبع وصفًا فلسفيًا دقيقًا لا يخلو من اختزال وتكثيف وجزالة، أظهر الفرق الكبير بين الحياة المستقيمة والحياة السيئة، والأسباب الداعية لها، وأكد على الفكرة التي نوهنا عنها سابقًا من أننا غ البًا ما نكون سببًا في كل المصائب التي تحط على رؤسنا، وليس المجتمع من يدفعنا للسقوط. وكابيتولينا هذه كانت فتاة التقاها في أحد بيوت الدعارة وتعلق بها مؤقتًا قبل أن يهجرها، وشكلت ضلعًا مهما في بنيوية العمل، وظفها المؤلف لإظهار الصراع النفسي الكبير الذي عاشه «كونزالو» وهو يشعر بسوئه ولا يستطيع التخلص منه.
هذا الصراع الذي يبدو سطحيًا ويتكرر حدوثه كثيرًا بين الفتيات والشباب، لم يكن كذلك داخل هذه السردية، إذ استلزم ربع مسحة السرد تقريبًا، فقد أمتد على مدى 26 صفحة من ص52 إلى ص78، وشكل بؤرة الصراع الحقيقي الذي يعيشه «كونزالو» مع نفسه، ومعاناته الشديدة من اضطراب «قلق الاختبار» الذي لا يُمكِّنه من اتخاد القرارات في وقتها المناسب والتردد الكبير حيالها، إذ لم يستطع تحمل أن يكون له زوجة وأبناء لقناعته أنه أقل بكثير من تحمل هذه المسؤولية الجسيمة وهو المشرد السكير، في مقابل شعوره بحاجته الماسة إليه، وخشيته أن تُهلك نفسها بتخليه عنها، فأتت الأحداث المتوالية لتظهر لنا هذا الصراع النفسي البديع بكل أبعاده الفلسفية. وتقحمنا في تلقي الحكاية والتأثر الكبير بنتائجها، حتى وصولنا إلى النهاية. أي أنه عاش صراعًا حقيقيًا وقف عليه «مكسيم» ووصفه في أكثر من موضع كقوله ص64: (كنت شديد النقمة عليه، وكانت النداءات المخمورة «هيا بنا» والصيحات وأنين كابيتولينا لا تزال يرن صداها في أذني، فلم أرحم صديقي أدنى رحمة.) انتهى كلامه.
وبعد، إن كنت سأتوقف عن الحديث هنا، أود الإشارة قبل ذلك إلى أن هذه السردية حوت حكايات ملهمة لم أذكر شيئًا منها، ويكفي للدلالة على ذلك التعريج سريعًا على حكاية الأخرس «جراسيم» وكلبه، التي بلغت ذروتها في قوله ص20: (كنت أرتجف عندما تبلغ من القصة هذا الحد. يا إلهي.. تصور أن يُرغم الإنسان على إهلاك المخلوق الوحيد الذي يهب له كل سعادته!) انتهى كلامه. لنستخلص منها مقدار الألم الذي سيرافقنا مدي الحياة إن أجبرنا عى قتل سعادتنا بأنفسنا نتيجة عبوديتنا المطلقة لمن يصدر لنا أوامر تخدم مصلحته هو.
وخلاصة القول: إن قصة «كونزالو» استحقت بالفعل الحديث المطول عنها، والخوض في كثير من المعاني المستقاة منها، وإن كانت بقية قصص المجموعة لا تقل قيمة وجمالًا عنها. ولعل الحصاد الأعظم يكمن في تعميق إيماننا بحاجتنا الماسة لمعرفة الفرق بين «بين الكم والكيف» قبل شروعنا في كتابتنا السردية.