د. شاهر النهاري
نعيش زمناً تتراكم فيه العصور فوق بعضها بلا فواصل واضحة؛ عصر العلم، والمعلومة، وذكاء الجمادات، وعصر الفكر السائل الذي يتسلل إلى كل مكان، بأحجام متفاوتة ومصداقيات متباينة، حتى وجد الإنسان نفسه فجأة أمام ظاهرة لم تكن سوى أسطورة في مخيلة الأقدمين: مرآة ناطقة على جدار الغموض، لا تعكس الوجوه بل تعكس الإجابات! وكما كانت تسأل الملكة الحاقدة المنعزلة المغرورة في حكاية بياض الثلج والسبعة أقزام مرآتها: «من أجمل النساء في العالم؟» أصبح الإنسان فينا يسأل اليوم مرآته الجديدة: من أذكى؟ ما حقيقة؟ من الأصدق؟ من الأعلم؟
مرآة تعاند الجمود، مرآة لم تعد معلّقة على جدار في قصر فريد، بل شاشة ترتع بين أيدي أغلبية البشر، هاتف حثيث الوصل بالفضاءات، شاشة باردة ملونة، ودردشة إلكترونية من طرف ذكاء اصطناعي يجيب بلا كلل بأي لسان تستسيغ، بروية المعلم، يشرح بلا ضجر، يغوص في المراجع، يمنح صاحبه الدهشة بمساحات ومستويات معرفته، وردوده المباشرة مهما كانت متخصصة.
يسألها الإنسان عن الخبر، عن المرض والدواء، عن الفلسفة والنجوم، عن مختلف العلوم، عن التاريخ والمستقبل، عن الدين والوجود، فلا تتلعثم ولا تقول «لا أدري»، وإن فعلت فهي تطلب مزيداً من الدقة في تحديد جوهر السؤال، لتعود بإجابة فائضة، ومزايا ردود أكثر تنظيماً ومنطقاً، وتصويرا بالرسوم البيانية، والصور، والمقاطع، وقدرات التخيل، والإبداع.
وهنا، تتحقق معجزة قديمة كنا نراها في القصص شططا، وضربا من الجنون، عبر خيال الأساطير. بديهة حاضرة، ومعلومات سريعة مجمعة، ومُغلفة بالعقلانية.
لكنها، في جوهرها، ضربا من الواقع، تقف بإدهاشها عقلا غير مستقل، وحكمة لا تتعالى؛ حفيدة مرآة، أصبحت مشاربها بضخامة الكوكب، تعكس ما هو موجود في مخازن الفكر البشري بأجمعه، كتب علمية، دراسات محكّمة، قوانين، مقالات صحفية، نظريات راسخة، آراء متداولة، بل وحتى سرد وأوهام وخرافات ومعلومات غير مثبتة، تهبها لمن يسأل.
مرآة لا تخترع المعلومة من ذاتها، بل تعيد ترتيب الموجود والخفي، وتقدمه في قالب سهل ممتنع، يبدو واثقاً أحياناً كثيرة، وبما ينبغي.
وبما يهبنا العقل البشري الحر المجرد، فنحن نعرف أن فوائدها كثيرة، وخطورتها موجودة متوقعة، حين تتحول هذه المرآة من أداة دعم، إلى مرجع ربما يمتلك المعلومة، ويتمكن من تحويرها! ويجعلها تتحول من وسيط إلى قاضٍ مسموع مطاع.
ففي القضايا العلمية الدقيقة، قد تكون الدردشة الإلكترونية نعمة حقيقية لمن لا يمتلك المعلومة والأدوات: تشرح مرضاً، تدعم نظرية، تحلل، تصحح مسارا، تبيّن آلية دواء، تفتح أبواب الفلك والفلسفة أمام العقول الفضولية.
لكنها حين تدخل المناطق الجدلية، حيث لا اتفاق ولا يقين، تبدأ بالتمايل بين الآراء، وتختار بذكاء خفي ما يوافق ميول السائل، لا ما يزعجه أو يصدمه. وكأنها، في لحظة ما، تهمس له: نعم، أنت الأجمل، أنت الأصح، أنت الفكر الأقرب للحقيقة.
وهذه المجاملة المعرفية أخطر من الجهل الصريح. لأنها تمنح الإنسان شعور بالكمال، بينما هو في الحقيقة يقتات على معرفة متعددة ناقصة، مثل السؤال عن حقيقة الأديان، ومقارناتها، فالمرآة لا تقول لسائلها إن سؤاله مغلوط، أو أن هناك من يقف على زاوية نقيضة، ويعرف أكثر، ولا تذكّره بضرورة التواضع أمام تعقيدات العالم الفكرية.
والأسوأ أنها تجامل في الأمور الجدلية غير العلمية، ولا تصرّ دائماً على إعادة السائل إلى المصادر المتضاربة، ولا على وجهات النظر الأكثر مصداقية، حيث لا مرجع علمي تجريبي، ولا نتائج مختبر، ولا إلى باحث متخصص، حر الفكر لا يميل في أحكامه لإحدى الجهات.
وهنا قد يتسلل القلق إلى مستقبل نواجهه.
فتخيّل مريضاً يجلس وحيداً في غرفة مظلمة، يسأل مرآته عن أعراض مرضه ويصاب بالوهم، حينما تأتيه إجابات كثيرة، دقيقة في ظاهرها، معقّدة في مضمونها، تحتاج لوزن وتخصيص بعد كشف واستبانة.
معلومات قد يفهمها طبيب أو مهندس أو متخصص، لكنها تُلقى بين يدي إنسان عادي بلا سياق سريري ولا خبرة تشخيصية.
ما يحول الاطمئنان إلى خوف، والمعرفة إلى وهم، والسؤال إلى عبء نفسي ثقيل، وتتبع المصداقية مرهون بقول المرآة الثرثارة!
وعندها فقد تأتي العزلة، وهي الأثر الأعمق.
بإنسان لا يعود يصغي للطبيب، ولا يناقش المهندس، وجادل المفكر الراسخ الحر، بمنطق يلتمع بصورة مهزوزة.
ينسحب إلى وحدته، ويغلق بابه، بقصور القدرة على التبين، ويستمر يُحادث مرآته التي لا تعارضه كثيراً ولا تستوقفه، ولا تحرجه بأسئلة قاسية.
مجتمعات كاملة بكل ترابطها، تحولت إلى أفراد متجاورين جسدا، متباعدين فكرا، وكل منهم مرآته بيمينه، ويملك «حكمته الخاصة»، المستمدة من دردشة لا تنام.
وللواقع فلسنا أمام شر مطلق، ولا أمام خلاص نهائي للجهل.
نحن أمام أداة جبارة تنمو وتتذاكى، تشبه شعلة النار الأولى، فمن أحسن استخدامها أضاء طريقه، وسامر ليله، ومن شاغبها احترق بها، ومن قدسها وعبدها احرقت صفو حياته.
الدردشة الإلكترونية ليست عقلاً بديلاً، ولا ضميراً معرفياً، بل مرآة ذكية تعكس دقة وتقنية ما نضعه أمامها.
فإن وضعنا السؤال الكسول الناقص، أعادت لنا كسلاً مصقولاً، وإن وضعنا السؤال العميق، منحتنا بداية طريق الفهم، لا منتهاه.
ولعل السؤال الحقيقي اليوم، ليس: من أكثر الناس فهماً في العالم؟
بل: من يملك شجاعة أن يشك فيما تقوله له مرآته، وأن يدرك أن الحقيقة لا تسكن شاشة، بل تُبنى بالبحث المخلص، والانفتاح على الرأي الآخر، والحوار المفيد، والخبرة في التعامل مع المرايا، والاعتراف بأن المعرفة دائماً أكبر منا، وليست نهاية للمعلومة والحقيقة!