د.عبد العزيز سليمان العبودي
تُمثل رواية (بقية حياتنا) للروائي الأمريكي-البريطاني بنجامين ماركوفيتز، الصادرة عام 2025 عن دار نشر فيبر، وثيقة أدبية بالغة الأهمية والتعقيد في آنٍ واحد. فلا تكمن أهميتها فقط في وصولها إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر لعام 2025، بل في قدرتها على تشريح اللحظة الراهنة للطبقة المتوسطة الغربية. هذا العمل، وهو الرواية الثانية عشرة في مسيرة ماركوفيتز الأدبية، يبتعد عن الملاحم التاريخية أو التجريب الشكلي، ليغوص بدلاً من ذلك في الواقعية النفسية، مستكشفاً التضاريس الوعرة للعلاقات الزوجية طويلة الأمد، والفراغ الذي يخلفه نمو الأبناء، والاصطدام الصامت بين الأجيال في ظل حروب الثقافة المعاصرة. تتناول الرواية قصة توم لايوارد، أستاذ القانون البالغ من العمر 55 عاماً، الذي يجد نفسه عند مفترق طرق وجودي لحظة إيصال ابنته الصغرى ميريام إلى الجامعة في بيتسبيرع. فبدلاً من العودة إلى منزله في نيويورك وإلى زوجته إيمي، يختار توم القيادة غرباً في رحلة برية غير مخططة، محاولاً استكشاف ما تبقى من حياته أو الهروب منها.
تبدأ الرواية بحدث يبدو في ظاهره اعتيادياً، ولكنه يحمل شحنة نفسية هائلة تؤسس لكل ما يليه من أحداث: رحلة توم لتوصيل ابنته الصغرى ميريام إلى جامعة كارنيجي ميلون في بيتسبرغ. يمثل هذا الحدث في الأدبيات السوسيولوجية والنفسية نقطة تحول حرجة تُعرف بـمتلازمة العش الفارغ، لكن الكاتب يعيد صياغتها هنا ليس كحالة من الحزن السلبي، بل كلحظة تفعيل لقرار مؤجل منذ زمن بعيد. بالنسبة لتوم، لا يمثل هذا الحدث مجرد وداع عاطفي لابنته، ولا مجرد انتقال لمرحلة الشيخوخة المبكرة، بل هو الموعد النهائي لاتفاق صامت وبارد عقده مع نفسه قبل اثني عشر عاماً، حين اكتشف خيانة زوجته إيمي، فقرر تأجيل الانفصال وتجميد مشاعره الغاضبة حتى تبلغ ابنته الصغرى الثامنة عشرة وتغادر المنزل. يستخدم الكاتب هذا التوقيت الزمني الدقيق لاستكشاف مفهوم (الواجب المؤجل)، وكيف يمكن للقرارات العاطفية الكبرى أن تُحفظ في ثلاجة الزمن، لتُستحضر لاحقاً في سياق نفسي وجسدي مختلف تماماً عما كان عليه الحال وقت اتخاذ القرار. إن لحظة الوداع في بيتسبرغ ليست مجرد وداع مكاني بين أب وابنته، بل هي لحظة انسلاخ عن دوره الوظيفي كـأب حام وكـزوج شكلي. وبمجرد أن تغلق ابنته باب السكن الجامعي خلفها، يجد توم نفسه منكشفاً أمام حقيقة زواجه المتصدع، وحقيقة ذاته المهنية التي تتعرض للتفكك. وهنا، يتحول الفراغ المكاني، السيارة الفارغة في رحلة العودة المفترضة، إلى فراغ وجودي يملأه توم بالهروب بدلاً من المواجهة.
تُعتبر (روايات الطريق) نوعاً أدبياً أمريكياً، يرتبط عادةً بالبحث عن الحرية، واكتشاف الذات، والوصول إلى مناطق جديدة، كما في أعمال كلاسيكية مثل (على الطريق) لجاك كيرواك. ومع ذلك، يقدم الكاتب في (بقية حياتنا) تفكيكاً لهذا النوع الأدبي. فرحلة توم نحو الغرب تتميز باللاغاية أو الهدف الغامض والهروب. فلا يكتشف البطل أمريكا بالمعنى الجغرافي أو الثقافي الواسع، بقدر ما يغوص بين شوارعها، مبتعداً عن التزاماته ومسؤولياته. فتتحول السيارة التي يقودها إلى كبسولة للعزل النفسي، أو شرنقة معدنية تسمح له باجترار ذكرياته وتقييم حياته دون مقاطعة الواقع الخارجي. تخطيط توم لزيارة بقايا الماضي صديق قديم من الجامعة، أو شقيقه، أو ابنه الأكبر، وربما قبر والده في كاليفورنيا، يعكس رغبة عميقة في إعادة بناء الهوية من خلال شظايا العلاقات السابقة التي لم تعد موجودة بشكلها الأصلي. فهو لا يبحث عن المستقبل، بل يحاول تجميع قطع من ماضيه البديل أو المسارات التي لم يسلكها، في محاولة يائسة لفهم كيف وصل إلى هذا الحاضر المسدود. ويتم سرد أحداث الرواية بلسان المتكلم من خلال صوت توم، وهو خيار يمنح الرواية طابعاً اعترافياً، ولكنه في نفس الوقت يطرح إشكالية الراوي غير الموثوق. فالقارئ يرى العالم، والزواج، والأزمة المهنية، حصرياً من خلال عدسة توم المشوبة بالمرارة، والدفاعية، والتبرير الذاتي.
يصف توم زواجه ومشاعره وخلافاته المهنية من وجهة نظرته الأحادية، مما يجعل القارئ في حالة دائمة من الشك، مضطراً لتفكيك تحيزات توم لتكوين صورة أكثر موضوعية عن الشخصيات الأخرى، وخاصة زوجته إيمي التي لا نسمع صوتها إلا من خلال فلتر ذاكرة توم وتفسيراته. وهو لا يقدم نفسه كبطل ملحمي، بل رجل مليء بالعيوب، والشكوك، والآراء المرفوضة أو رجعية في المناخ الثقافي الحالي. هذا الأسلوب السردي يصنع علاقة معقدة ومتوترة بين القارئ والبطل، تتراوح بين التعاطف مع معاناته الإنسانية والوحدة التي يشعر بها، وبين الضجر أو حتى الغضب من سلبيته، وتمركزه حول ذاته، وامتيازه الذي لا يبدو أنه يدركه تماماً. إنها إستراتيجية سردية تخاطر بإبعاد القارئ، لكنها تهدف إلى تحقيق نوع من الصدق الجذ ري في تصوير النفس البشرية في حالات ضعفها وأنانيتها. توم أستاذ قانون لم يكن هذا التخصص خياره الأول أو شغفه الحقيقي، بل كان يطمح في شبابه لأن يكون كاتباً روائياً أو لاعب كرة سلة محترفاً. هذا التاريخ من الطموحات المجهضة يجعله يعيش حالة دائمة من الحياة البديلة التي لم تتحقق، مما يغذي شعوره بالمرارة والندم. فتتجلى أزمته الوجودية في شعوره العميق بأن العالم يتجاوزه، سواء على الصعيد التكنولوجي أو الاجتماعي أو العائلي. إحدى السمات المركزية والذكية التي ينسجها الكاتب في بنية الرواية هي سمة المرض والاعتلال الجسدي الغامض. حيث يعاني طوال الرحلة من أعراض جسدية مقلقة تشمل خفقان القلب، والتعب المزمن، وتورم الوجه المتقطع. فيشك في حواراته الداخلية أن هذه الأعراض قد تكون ناتجة عن (كوفيد طويل الأمد)، لكنه يرفض بشكل قاطع وعنيد زيارة الطبيب لتشخيصها أو علاجها. يربط الكاتب ببراعة أدبية بين هذا التدهور الجسدي والتدهور المهني والعائلي لتوم، فيصبح المرض استعارة قوية لـلتدهور التدريجي في منتصف العمر، وللأشياء التي تتآكل بصمت دون أن نملك القدرة على إيقافها. إن رفض توم لرؤية الطبيب ليس مجرد إهمال، بل هو آلية دفاع نفسية، تعكس إنكاره العام لحقيقة وضعه؛ فهو يفضل العيش في حالة من الغموض والقلق كمؤشر التنبيه الذي يومض ويتجاهله بدلاً من مواجهة حقيقة قاطعة بأن جسده، مثل زواجه ووظيفته، ينهار وقد وصل إلى نهايته، هذا السلوك يعكس نمطاً من السلبية التي تميز شخصية توم في كل جوانب حياته.
يضيف الكاتب طبقة من التعقيد المعاصر والسياسي لشخصية توم من خلال وضعه المهني المتأزم. توم ليس مجرد أستاذ في إجازة، بل هو في إجازة إجبارية، أو تعليق عن العمل بسبب شكاوى متعددة من الطلاب حول سياسات تعامله معهم، ومواقفه الشخصية. حيث كان يرفض استخدام الضمائر المفضلة في توقيعه الإلكتروني الرسمي، وهو موقف يُقرأ في السياق الأكاديمي الحديث كرفض للاعتراف بالتنوع الجندري. بالإضافة إلى تقديمه مشورة قانونية لمالك فريق في دوري كرة السلة الأمريكي، متورط في فضيحة عامة بسبب تعليقات عنصرية، مما وضع توم في خانة المدافعين عن الأشرار في نظر طلابه. هذه التفاصيل الدقيقة تضع توم في قلب حروب الثقافة الأمريكية الحالية. وهذا في سياق الرواية يخدم غرضاً مهماً وهو تعزيز شعور توم بالاغتراب وبأنه ينتمي لسلالة تحتضر من الرجال البيض.
واحدة من أكثر العبارات التي تم اقتباسها من الرواية، هي وصفه لزواجه فيقول: كان زواجاً بمعدل C-مما يجعل من الصعب جداً تحقيق درجة أعلى من B في مجمل بقية حياتك. هذا التقييم الأكاديمي الصارم للعاطفة يعكس نظرة توم البراغماتية والمشوبة بالمرارة واليأس الهادئ. فهو لا يرى الزواج كارثة كاملة تستحق درجة الرسوب F، ولا يراه كنجاح باهر يستحق الامتياز A، بل يراه كحالة من التوسط المخيب للآمال. هذا المفهوم يطرح تساؤلاً جوهرياً وفلسفياً في الرواية: هل يمكن للإنسان أن يعيش حياة ناجحة وسعيدة وذات معنى إذا كان الركن الأساسي فيها (الزواج) بالكاد يكون مقبولاً؟ وهل الاستمرار في مثل هذا الزواج هو نوع من الصمود البطولي أم نوع من الجبن والكسل؟
وخلال الرحلة البرية، يتحدث توم مع إيمي في ذهنه باستمرار، مستحضراً مشاعر دافئة وبسيطة تجاه زوجته المتخيلة أو زوجته القديمة، لكنه يتجنب الاتصال بـزوجته الحقيقية في نيويورك، التي يعتقد أنها لا تحبه كثيراً هذه الأيام ويخشى الدخول معها في جدالات عقيمة. هذا الانفصال بين الزوجة الموجودة في الذاكرة والزوجة الموجودة في الواقع، يعكس التآكل البطيء الذي تسببه السنوات والضغائن غير المحلولة. وعلى الرغم من أن سرد الرواية قد تم حصرياً من منظور توم، إلا أن الكاتب أبدع في رسم شخصية إيمي، كشخصية مركبة. فهي من خلفية ثرية ومميزة، ولديها تاريخ ثقافي غني. ومع ذلك، فشخصيتها قد تآكلت ببطء بفعل الارتباط الطويل به، وكأن زواجهما كان عملية نحت سلبي لشخصيتها. وخوفها من أن يتركها توم بعد رحيل ابنتهما يظهر هشاشتها الإنسانية، أما تاريخها العاطفي فيشير إلى أنها استقرت لخيارات أقل مما تستحق. إن غياب صوت إيمي المباشر في الرواية يعزز موضوع غياب التواصل؛ فنحن لا نسمعها لأن توم توقف عن الاستماع إليها منذ زمن طويل.
لا تنتهي الرواية بحل درامي هوليوودي كبير، ولا بطلاق نهائي وتحرر كامل كما خطط له توم في بداية رحلته. بل تنتهي عند أزمة حادة ومفاجئة، تتدهور خلالها حالة توم الصحية، بشكل خطير مما يستدعي تدخلاً طبياً طارئاً، ليقطع رحلته ويتوقف. هذا التحول الدرامي يقلب الطاولة تماماً على خطط توم وعلى ديناميات القوة في الرواية. فبدلاً من أن يكون هو الفاعل الذي يمتلك زمام المبادرة ويقرر الرحيل وهجر زوجة، يصبح فجأة، المريض العاجز الذي يحتاج إلى الرعاية والإنقاذ. هذا الموقف يجعل زوجته إيمي تذهب إليه في المستشفى، مما يعيده قسراً إلى دائرة الاعتماد عليها. إن الجسد هنا ينتقم من العقل؛ فالجسد الذي أهمله توم يمنعه من الهروب. لتنتهي الرواية بجملة تحمل طابعاً تساؤلياً ومفتوحاً: هل نذهب إلى المنزل؟