خالد محمد الدوس
صدر مؤخرا كتاب «علم الاجتماع السياسي» للمؤلفة الدكتورة وداد عبدالرحمن القرني، أستاذ علم الاجتماع المشارك بجامعة الملك سعود.. يأتي هذا الكتاب في مرحلة تاريخية حسّاسة، تتقاطع فيها التحوّلات السياسية العالمية مع تحدّيات داخلية تعيشها المجتمعات العربية، ليقدّم رؤية معرفية راسخة حول علم السياسة وعلم الاجتماع، ثم علم الاجتماع السياسي بوصفه مجالًا تفاعليًا يجمع السلطة بالمجتمع، ويمنح القارئ أدوات لفهم الظواهر السياسية والاجتماعية بعيدًا عن التلقين وبمنهج نقدي تحليلي متين. فالكتاب لا يهدف فقط إلى تعريف الطالب بمفاهيم العلوم السياسية والاجتماعية، بل يسعى إلى بناء وعي وطني قادر على قراءة الواقع وتحوّلاته، وإلى تقديم إطار نظري وتطبيقي يُسهم في تطوير قدرة الطلاب على التحليل، وعلى ربط النظريات بالواقع الاجتماعي والسياسي الذي يعيشونه.
تبدأ الكاتبة بمقدمة تجمع بين العمق الفكري والقلق الوطني، إذ تكشف عن الهموم التي دفعتها لتأليف هذا الكتاب، وعن رغبتها في أن يتجاوز العالم العربي ضعفه الراهن ليستعيد دوره الحضاري، ولتكون المعرفة أداة لتحرير العقل العربي من الارتهان للنماذج الخارجية. وهي ترى أن الفكر السياسي والاجتماعي هو خط الدفاع الأوّل عن الدولة والمجتمع، وأن بناء وعي متماسك هو أحد أهم شروط الاستقرار في عالم يموج بالصراعات.
الكتاب مكوّن من سبعة فصول موزّعة بطريقة تجعل القارئ ينتقل تدريجيًا من الأساسيات النظرية إلى التطبيقات العملية التي تربط المجتمع بالدولة وبالتحوّلات العميقة التي يشهدها العالم العربي.
إذ يتناول الفصل الأول نشأة علم السياسة، بوصفه علم السلطة والتنظيم الاجتماعي، ويقدّم مسارًا تاريخيًا لتطوّر المعرفة السياسية، قبل أن يدخل في علاقة هذا العلم بالعلوم الأخرى، مما يهيّئ الطالب لفهم كيف تُنتج السياسة كعلم وليس كخطاب.
أمّا الفصل الثاني فيتناول علم الاجتماع، نشأته وطبيعته وموضوعاته، ثم يعرض تفسيرات علماء الاجتماع للظواهر الاجتماعية، ويكشف أهمية الدراسات البينية التي تربط علم الاجتماع بعلوم أخرى. وفي هذا السياق، يتجلّى الاهتمام الواضح لدى الكاتبة بتعزيز التفكير النقدي لدى الطلاب، وإعدادهم للتعامل مع المجتمع بوصفه نظامًا معقدًا لا تفسّره معادلة واحدة ولا تشرحه نظرية واحدة.
ويأتي الفصل الثالث ليقدّم لبّ الكتاب: علم الاجتماع السياسي، الذي يُعدّ علمًا يجمع بين دراسة السلطة والمجتمع، ويركّز على كيفية تشكّل الوعي السياسي، وأثر البنُى الاجتماعية والثقافية في صنع القرار السياسي. وفي هذا الفصل تتضح قدرة المؤلفة على الربط بين النظريات الكبرى وبين السياق العربي، بما يمنح طلاب وطالبات علم الاجتماع والباحثين أفقًا لفهم تفاعل المجتمع والدولة، وكيف يكون المجتمع في لحظة ما صانعًا للسياسة، وفي لحظة أخرى مستقبِلًا لها.
في الفصول اللاحقة، ينتقل الكتاب إلى تحليل التنظيمات السياسية والأحزاب وجماعات الضغط، ثم التنشئة السياسية، ليقدّم رؤية عميقة حول دور المؤسسات في تشكيل السلوك السياسي، وخلق الانتماء الوطني، وترسيخ الولاء للدولة. وهنا يتجلّى البعد التطبيقي للكتاب حين تقدّم الكاتبة مفهوم «التجنيد الوطني» بوصفه مشروعًا استراتيجيًا للتحصين الشامل للدولة-not فقط عبر الخدمة العسكرية، بل من خلال منظومة متكاملة تشمل التحصين الأمني والفكري والسياسي والإعلامي والرقمي.
إنّ هذا التصوّر الجديد للتجنيد الوطني يمثّل امتدادًا لفكر العلماء الكبار مثل جانويتز وهنتنغتون، لكن بصياغة عربية حديثة تأخذ في الاعتبار التحوّلات التي تشهدها المنطقة من صراعات الهوية إلى حروب المعلومات.
ويكتسب هذا المفهوم أهميته اليوم بسبب ما يشهده العالم من تغيّر في طبيعة التهديدات: فلم تعد المعارك تُكسب بالسلاح فقط، بل بالفكر والوعي والمعرفة. ومن هنا يصبح «التجنيد الوطني» كما تطرحه الكاتبة مشروعًا وطنيًا شاملًا لإعداد المواطن القادر على مواجهة التحديات الفكرية والمجتمعية والإعلامية، وهو مشروع يملأ الفراغ الذي تركته النماذج السياسية التقليدية، ويرتقي بالوعي الوطني إلى مستوى الشراكة الفاعلة بين المواطن والدولة.
وتزداد قيمة الكتاب حين ينتقل في فصوله الأخيرة إلى دراسة ثورات الربيع العربي، وتحليل أبعاد عاصفة الحزم من منظور اجتماع سياسي، مقدّمًا قراءة عميقة في التحولات الجيوسياسية وما ترتّب عليها من إعادة تشكيل للوعي العربي تجاه الهوية الوطنية والأمن القومي.
إنّ هذا الكتاب لا يقدّم المعلومات فقط، بل يقدّم منهجًا جديدًا في تعليم العلوم السياسية والاجتماعية، من خلال دمج الأسئلة التحليلية، والملفات البحثية، والمقارنات الواقعية، وتشجيع الطلاب والطالبات على إنتاج معرفة خاصة بهم. كما يعيد الاعتبار لعلم الاجتماع السياسي بوصفه علمًا تأسيسيًا لفهم الدولة الحديثة، وأداة لبناء مجتمع واعٍ، قادر على حماية وطنه بالفكر قبل السلاح.
في المحصلة، يقدّم الكتاب رؤية علمية ووطنية في آن، تجمع بين العمق النظري والتحليل الواقعي، وتضع أمام القارئ نموذجًا جديدًا للتعليم السياسي والاجتماعي، يقوم على التفكير النقدي، والتحصين الوطني، وفهم العلاقة العضوية بين الدولة والمجتمع. إنّه إضافة نوعية للمكتبة العربية، ومرجع يمكن أن يسهم في بناء جيل جديد واعٍ، ثابت في انتمائه، قادر على قراءة العالم وفهم ذاته ووطنه.
وأخيراً أظهرت المؤلفة (د. وداد القرني) في كتابها الجديد بصماتها الواضحة و قدرتها الاكاديمية والبحثية البارعة.. امتزجت معرفتها النظرية بخبرة عملية غنية ومباشرة في المجالات الاجتماعية والدبلوماسية، وهذا المزيج هو ما يمنح كتابها ذلك الحّس الاجتماعي العميق والواقعي الذي يتفاعل مع هموم المجتمع ويناقش قضاياه بمنظور موضوعي بناء.