غسان برنجي
على امتداد العقود الماضية، اعتادت المجتمعات النظر إلى التقنية بوصفها أداة مساعدة تُسرّع العمل ولا تغيّر جوهره. كانت الحواسيب تُستخدم لتسجيل المعلومات، والأنظمة الإلكترونية لأرشفتها، والمنصات لتسهيل الوصول إليها. لكن التجربة السعودية خلال مرحلة التحول الوطني أثبتت أن التقنية يمكن أن تتحول إلى ما هو أبعد من كونها وسيلة؛ يمكن أن تصبح سياسة عامة كاملة تعيد تشكيل طريقة تفكير الدولة، وتعيد صياغة العلاقة بينها وبين المجتمع، وتفتح أفقًا جديدًا لفهم دور الحكومة في العصر الحديث.
فالتحول الرقمي الذي شهدته المملكة لم يكن خطوة تقنية مكمّلة، ولا مبادرة محدودة في إطار إداري معيّن، بل كان مشروعًا وطنيًا واسعًا يعكس رؤية سياسية وفكرية عميقة.
كان مشروعًا يستهدف تحسين الخدمة، لكن هدفه الأعمق كان بناء نموذج جديد للحكم، نموذج يربط بين الكفاءة والعدالة، بين السرعة والشفافية، وبين المواطن والدولة بطريقة لم تكن مألوفة في النماذج التقليدية. لقد دخلت المملكة عالم الحكومة الرقمية ليس بوصفها موضة عابرة أو استجابة لتيار عالمي، بل بوصفها قرارًا استراتيجيًا يعكس إرادة تغيير جذري في بنية الإدارة العامة.
من يتأمل المشهد السعودي يدرك أن التحول لم يبدأ من التقنية، بل بدأ من السؤال السياسي والإداري الأكبر: كيف يمكن للدولة أن تكون أكثر قدرة على الوفاء باحتياجات الناس؟ كيف يمكن أن يصير القرار أسرع، والخدمة أعدل، والتواصل أوسع، والنتائج أكثر وضوحًا؟ هذا السؤال هو الذي قاد إلى التقنية، وليس العكس. فالتقنية مهما بلغت من تطور ليست قادرة على إصلاح نموذج إداري بطيء أو متضخم، لكنها تصبح عنصرًا حاسمًا حين تأتي ضمن رؤية تُعيد تعريف دور الدولة.
قبل التحول، كانت الخدمة الحكومية تُنظر إليها كمعاملة. رحلة تبدأ من مكتب ولا يُعرف أين تنتهي. كانت تعتمد في جودتها على الاجتهاد الفردي أكثر مما تعتمد على النظام. وكانت تتأثر بالمكان والموظف والوقت. كان المواطن يذهب إلى المؤسسة الحكومية متسلّحًا بالصبر لا بالتوقعات.
أما اليوم، فقد تغيّر كل شيء. لم تعد الخدمة معاملة بل أصبحت حقًا. لم تعد التجربة مرهونة بعنصر بشري واحد بل أصبحت قائمة على منظومة متكاملة. ولم تعد جودة الخدمة تُفهم بوصفها تفضّلًا بل بوصفها التزامًا تنظيميًا وأخلاقيًا.
هذا التحول في الوعي كان واحدًا من أعرض آثار الحكومة الرقمية. المواطن الذي كان يتوقع الانتظار، لم يعد يقبله. المواطن الذي كان يبحث عن معلومة، أصبح يطلب شفافية كاملة. المواطن الذي كان يتعامل مع الإجراءات كما هي، بدأ يتساءل عن جدواها. وبهذا، تغيّر المجتمع، وتغيّرت اللغة، وتغيّرت العلاقة بين الناس والدولة.
الفرق بين الرقمنة والحكومة الرقمية يشبه الفرق بين تغيير الواجهة وتغيير الفلسفة. الرقمنة السطحية تنقل التعقيد من الورق إلى الشاشة. أما الحكومة الرقمية الحقيقية فتبدأ من الجذور: لماذا وجد هذا الإجراء أصلاً؟ ما الضرورة؟ ما القيمة؟ كيف يمكن تبسيطه؟ كيف يمكن إعادة هندسته لا نقله فقط؟ ولهذا، لم يشهد المواطن السعودي نسخة إلكترونية من التعقيد القديم، بل شهد خدمة صُممت بطريقة مختلفة تمامًا. ومن المهم هنا فهم نقطة استراتيجية لا يُلتفت إليها كثيرًا: الحكومة الرقمية تُغيّر المواطن قبل أن تغيّر الحكومة. المواطن الذي يعيش تجربة واضحة وسهلة يصبح أكثر وعيًا بجودة الخدمة، وأكثر مطالبة بالتحسين، وأقل قابلية للتعقيد. وهذا الوعي الجديد يخلق ضغطًا إيجابيًا على الجهات الحكومية، ويجعل من التحسين عملية مستمرة لا حملة مؤقتة. وبذلك، يدخل المواطن في قلب دورة التطوير، ويصبح جزءًا من منظومة الأداء.
أحد أعظم التحولات في التجربة السعودية كان جعل البيانات قلب الدولة الحديثة. فالبيانات لم تعد أرشيفًا، بل أصبحت أساسًا لصناعة القرار. تُستخدم للقياس، للتنبؤ، للتخطيط، ولتوجيه الموارد. لم يعد المسؤول يعتمد على الانطباع، بل على معلومة دقيقة تُظهر له الواقع كما هو لا كما يبدو. وعندما تتخذ الدولة قراراتها بناءً على بيانات واسعة، تصبح أكثر قدرة على معرفة أين تتأخر الخدمة، وأين تتكرر الإشكالات، وأين توجد الفرص. البيانات هنا ليست تقنية، بل هي لغة الدولة الجديدة.
وفي سياق هذا التحول، برزت الشفافية بوصفها سياسة عامة لا يمكن التراجع عنها. أصبحت الخدمة مكشوفة، وقتها معلوم، مراحلها واضحة، والجهة المسؤولة ظاهرة. هذه الشفافية لا تعزز الثقة فحسب، بل تصنعها. فالثقة ليست شعورًا عامًا، بل نتيجة مباشرة لوضوح الإجراءات وصدق الأرقام وعدالة الوصول. المواطن حين يرى المعلومات أمامه يصبح أكثر ثقة، والدولة حين تقيس نفسها بدقة تصبح أكثر قدرة على التحسين. وهذا كله لم يكن ليحدث لولا الفضاء الرقمي الذي أتاح هذا الوضوح.
كما أعاد التحول الرقمي تعريف مفهوم الجهة الحكومية. لم يعد كل جهاز يعمل بمعزل عن الآخر، بل أصبحت الدولة منظومة واحدة تتشارك المعلومات، وتتكامل في الخدمات، وتنسّق في صنع التجربة. هذا التكامل لم يكن مجرد ربط تقني، بل كان انتقالاً مفاهيميًا من نموذج «الجهة» إلى نموذج «الدولة»، بحيث يصبح المواطن قادرًا على إتمام رحلة كاملة عبر منصة واحدة مهما تعددت الجهات.
هذا النموذج الجديد جعل من البيروقراطية التقليدية شيئًا من الماضي. فالبيروقراطية تعتمد على الغموض والتعقيد وطول المسار، لكن عندما يصبح كل شيء واضحًا وسريعًا ومرئيًا، تفقد البيروقراطية مبرراتها. وحين تفقد البيروقراطية مبرراتها، تتراجع تلقائيًا. لم تكن الحرب على البيروقراطية حربًا شعاراتية؛ كانت حربًا على الأسباب التي تغذيها.
وحين تتحدث النتائج، يصبح الجدل غير مهم. المواطن يرى الفرق، والواقع يتغير، والأداء يتحسن. ليس لأن الدولة رفعت شعارات، بل لأنها أعادت تعريف دورها. ولأنها انتقلت من نموذج يعتمد على الورق والانتظار، إلى نموذج يعتمد على البيانات والسرعة والوضوح. وعندما تتقدم دولة بهذا الحجم إلى صدارة المؤشرات العالمية في نضج الحكومة الرقمية، فذلك لا يحدث بالصدفة، ولا يتم نتيجة مجهود محدود، بل هو نتيجة مسار طويل من إدارة التغيير، وإرادة سياسية، واستعداد مستمر لتصحيح المسار.
ولعل الأهم في التجربة السعودية أن الحكومة الرقمية لم تُقدَّم بوصفها مشروع وزارة أو قطاع، بل بوصفها مشروع دولة. مشروع يشارك فيه الجميع: القيادة، والجهات الحكومية، والمواطن، والمجتمع بأكمله. هذا الوعي الجمعي هو ما جعل التحول ممكنًا، وهو ما سيجعل استدامته أطول وأكثر عمقًا.
في النهاية، القصة الحقيقية ليست قصة تطبيقات أو منصات، بل قصة دولة أعادت تعريف نفسها. دولة دخلت العصر الرقمي من باب الإرادة لا من باب الضرورة. دولة قررت أن تجعل التقنية لغة للحكم، والبيانات وسيلة للفهم، والشفافية أساسًا للثقة، والمواطن شريكًا لا متلقيًا. وهكذا، لم تعد الحكومة الرقمية خطوة نحو التقدم فحسب، بل أصبحت سياسة عامة تعيد بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع، وتفتح باب المستقبل على اتساعه، وتمنح الوطن نموذجًا حديثًا للحكم يليق بمكانه وطموحه ودوره.