إعداد - عبدالله عبدالرحمن الخفاجي:
هناك لحظات لا نجد لها كلمات.
نحاول أن نصف شعورًا أو فكرة، فتفلت من اللغة، تبقى معلّقة بين القلب واللسان، وكأن التعبير صار ضيّقًا على ما نشعر به.
في هذه المساحة الصامتة يتقدّم الفن التشكيلي بهدوء، لا ليشرح، بل ليعطي ما لا نستطيع قوله، لكنه نحسه بعمق.
اللوحة لا تشرح، ولا تحاول فرض معنى.
إنها تضع أمامنا لونًا، خطًا، فراغًا.. وتدعونا لنرى أنفسنا فيه.
فهذه الأعمال ليست مجرد صورة للعين، بل مرايا للنفس، تكشف عن خوفٍ، حنين، فرح، أو حزن لم نعطه اسمًا من قبل.
الفن التشكيلي لا يتعامل مع المشاعر بوصفها أحداثًا، بل بوصفها آثارًا.
لا يرسم الخوف، بل رجفته.
ولا يصوّر الفقد، بل الفراغ الذي يتركه.
إنه لا يقول «ما الذي حدث»، بل يسأل بصمت: ما الذي بقي بعده؟
عبر التاريخ، وجدت لوحات جذبت الناس ليس لجمالها فقط، بل لما حملته من سرّ خفي.
الموناليزا ابتسامتها لا توضح شيئا، لكنها تلمس شيئًا غامضًا في كل من ينظر إليها.
غيرنيكا لبيكاسو لم تروِ الحرب، لكنها جعلتنا نشعر بها، وصحّحت فكرة مغلوطة: أن العنف يمكن أن يكون مقبولًا، وأثبت أنه مأساة لا يخففها الكلام.
الصرخة لإدفارد مونك لم تُرسم فقط للتعبير عن الخوف، بل لتجعلنا نواجه شعورنا بالقلق والارتباك، ونكتشف أنه إنساني وشامل.
لوحات أخرى، مثل إصرار الذاكرة لدالي أعادت تعريف الزمن في ذهننا، بينما الفتاة ذات القرط اللؤلؤي لفيرمير غامضة بحضورها وحده، لتذكّرنا بأن الغموض جمال لا يحتاج تفسيرًا.
وفي ليليون الليلية لهوبر، الوحدة تظهر وسط الزحام، لتغيّر تصورنا عن العزلة.
ولوحة ابن الإنسان لماغريت تفتح أسئلة عن هويتنا وحقيقتنا، وتدعنا نتساءل عن ما نخفيه عن الآخرين.. وما نخفيه عن أنفسنا.
هناك لوحات لم تُخلّد لأنها متقنة فنيًا فقط، بل لأنها قالت شيئًا يعرفه الجميع.. ويخجلون من قوله.
في لوحة إصرار الذاكرة لسلفادور دالي، حيث تذوب الساعات كأنها شمع، لم يكن الفنان يسخر من الزمن، بل أعاد تعريفه في شعورنا.
لوحة ليليون الليلية تضع إصبعها على شعورنا بالوحدة وسط الزحام، وتغيّر الفكرة المغلوطة عن العزلة.
حتى الأعمال السريالية، مثل ابن الإنسان، تتحدى تصوراتنا عن الهوية والحضور، وتترك لكل متلقٍ مساحة لتفسيره الشخصي.
الفن التشكيلي لا يقتصر أثره على المتلقي العادي، بل ألهم الشعراء والكتاب والموسيقيين.
كثيرا من القصائد والأغاني وُلدت أمام لوحة لم تقل كل شيء، لكنها تركت مساحة للإبداع.
الشاعر، حين يقف أمام اللوحة، لا يبحث عن معناها المباشر، بل عن صداها في قلبه، ليحوّله إلى كلمات، أو لحن، أو شعور جديد.
وهكذا، تتحول اللوحة إلى نص مفتوح، رواية من صفحة واحدة تحمل آلاف القصص، كل قارئ يكملها بطريقته الخاصة.
ومن أعظم ما يقدمه الفن التشكيلي أنه يُصحّح الأفكار المغلوطة بهدوء.
لا يحتاج إلى صراخ أو إقناع، يكفي أن يضعنا أمام شعور جديد لنرى العالم بطريقة مختلفة.
وهذا ما يجعل اللوحة أكثر من مجرد صورة، إنها فعل تفكير واعتراف صامت:
هنا، شعورك معترف به.. وحقك أن تراه.
اللوحة الصادقة لا تنتهي بانتهاء النظر إليها، بل تبقى في الذاكرة، وتعود إلينا في لحظة غير متوقعة لتكشف عن معنى جديد أو شعور آخر.
في زمن يكثر فيه الكلام، وتُستهلك الكلمات بسرعة، يظل الفن التشكيلي ملاذًا نادرًا للصمت الذي يحمل صدقًا.
الصمت الذي يُشعرنا بأننا لسنا وحدنا، وأن بعض ما نشعر به لا يحتاج إلى صوت.. بل إلى حضور.
حتى البساطة في اللوحة قد تُحدث أثرًا هائلًا.
كخطوط فان غوخ المضطربة، أو ألوانه النابضة، أو الفراغات الصامتة في أعمال التجريد، نجدها تثير فينا إحساسًا بلا سبب محدد.
كل متلقٍ يرى اللوحة من موقعه الخاص، محمّلًا بتجاربه وذكرياته ومخاوفه، ويكملها من داخله.
اللوحة بهذا المعنى ليست فقط عملًا بصريًا، بل مساحة مشتركة بين الذاتية والجمعية.
وهكذا، تصبح اللوحة رواية من صفحة واحدة، لكنها تحمل آلاف الاحتمالات:
قد تكون قصة حب، أو فقد، أو حلم مؤجل.
لا تفرض بداية ولا نهاية، ولا بطلًا واحدًا، بل تترك لكل قارئ أن يكون جزءًا من الحكاية.
كل عودة إلى اللوحة تكشف شيئًا جديدًا، لأننا نحن من تغيرنا.. أو لأن اللوحة تعرف كيف تتحدث إلينا بطريقة مختلفة في كل مرة.
حين نقف أمام لوحة، نصمت.
ذلك الصمت ليس عجزًا، بل حضورٌ.
وحين يعجز الكلام، تبدأ اللغة الأخرى: لغة الفن، لغة اللون والخط والفراغ، لغة لا تُقرأ بالعين وحدها، بل بالقلب.
اللوحة.. كانت دائمًا تلك اللغة.
** **
تويتر: AL_KHAFAJII