عبود بن علي ال زاحم
في الحياة المهنية نمرّ بلحظات تبقى محفورة في الذاكرة، ليس لأنها مُلهمة، بل لأنها موجعة. لحظات نكتشف فيها أن بيئة العمل ليست مبنى جميلًا ولا سياسة موارد بشرية متقنة، بل هي انعكاس مباشر لأسلوب القائد الذي نتعامل معه. فالنظرة، والنبرة، وطريقة الاحتواء أو القسوة.. كلها تصنع التجربة المهنية أكثر مما يصنعها الراتب أو المسمَّى الوظيفي.
وهنا قصص من الواقع عملت مع قادة جعلوني أُعيد التفكير في معنى العمل ذاته.
مديرة اعتبرت المرض خطأ، وكأن الإنسان يجب أن يعمل بلا تعب ولا إرهاق. مديرٌ آخر رأى أن مناسبة عائلية مهمة ليست سببًا كافيًا لتخفيف ضغط العمل، وكأن ارتباط الموظف بأهله جزء ثانوي يمكن المساومة عليه.
وتجربة ثالثة جعلتني أعمل بمهام ثلاثة موظفين وبراتب أقل من السوق، دون تقدير أو إنصاف. فيما كانت التجربة الأصعب مع مدير لم يمهل مشاعر الحزن 11 ساعة بعد وفاة جدي.
هذه المواقف لم تكن مجرد أحداث، بل كانت دروسًا موجعة في أن بعض القيادات لا تعاني من نقص في الأنظمة، بل في الإنسانية.
غادرت تلك البيئات دون تردد، واكتشفت أن المغادرة ليست ضعفًا، بل حفاظًا على النفس.
الوظيفة التي تستحق البقاء هي التي لا تطلب منك التضحية بكرامتك وصحتك وعلاقاتك.
ثم جاءت التجربة التي غيَّرت نظرتي تمامًا: قائد إنساني، كان يكتب لي: «خذي إجازة.. أنتِ تعبتِ هذا الأسبوع». جملة صغيرة لكنها تحمل تقديرًا كبيرًا.
ومع هذا القائد جاءني أربعة عروض وظيفية من جهات كبرى، لكنني لم أفكر لحظة في تركه. هنا أدركت أن الراتب عنوان صغير.. لكن المدير عنوان ضخم.
القائد الجيد لا يُعرَف بالكلمات المعقدة ولا بالمصطلحات الإدارية، بل بأفعاله اليومية: كيف يسمع، وكيف يثق، وكيف يرفع عنك الضغط، وكيف يفرح بنجاحك. قائد واحد جيد قادر أن يفتح لك أبوابًا للنمو والتقدّم، وقائد واحد سيئ قادر أن يجعل أفضل وظيفة كابوسًا يوميًا.
الحقيقة واضحة: لا تختَر وظيفة.. اختَر قائدًا.
اختر من يراك إنسانًا قبل أن تكون موظفًا، من يحميك من الاحتراق، ومن يجعل يومك أخف لا أثقل.
فالقيادة الجيدة تصنع بيئة صحية تُبنى عليها النجاحات، وتُحفظ فيها الكرامة.
والخلاصة:
Don’t pick a job, pick a boss. لأن القائد هو أول خطوة نحو مستقبل مهني صحي ومتوازن وإنساني.