د. سطام بن عبدالله آل سعد
في هذه الأيام نعيش زخمًا رياضيًا وتراثيًا كبيرًا جدًا، حتى بدا المشهد كأنه مسرحان متجاوران. مسرحٌ رياضي يتنقّل بين كأس العرب ومباريات كأس أمم إفريقيا، ثم يعود إلى حرارة مواجهات دوري روشن. وفي المقابل يدخل مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل في نسخته العاشرة بثقة، فيجذب الصغار والكبار، والمهتمين وغير المهتمين، ثم يفعل ما لم يتوقعه حتى خبراء كرة القدم، إذ يسحب جمهور «المباريات والنتائج» ليصبحوا يراجعون ألوان الإبل وأنواعها كما يراجعون جدول الدوري.
وهنا تبدأ المفارقة، فعندما يخطف حدثٌ تراثي عقول مشاهدي كرة القدم، رغم أن كرة القدم تملك الملاعب والنجوم والميزانيات، فالمسألة ليست «ترندًا» عابرًا. ما حدث درسٌ في صناعة الشغف؛ لأن المهرجان قدّم ما يسمى بـ»مرآة الهوية».
واللافت هنا، أنه ينافس كرة القدم في الترفيه، ويزاحمها في المعنى أيضًا؛ عبر معيارٍ واضحٍ يُفهم، ومكانةٍ تُبنى، واقتصادٍ ملموسٍ يتحرك أمام الناس. لذلك شعر المتابع أنه يشاهد شيئًا يخصّه، لا شيئًا يمرّ عليه، فاتّسعت دائرة الجمهور دون حاجة إلى صراخ أو مبالغات.
وعلى هذا الأساس صنع المهرجان «ديربياته» الخاصة، وهي منافسات بين كبار المُلاك لها ذاكرة وحسابات وهيبة، تشبه مباريات القمة لكن بروحٍ وهويةٍ تراثية. هذه الديربيات أعطت المهرجان رؤية أبعد من اللحظة، وبعدًا تنافسيًا عميقًا يزرع في الجيل الحالي والقادم معنى أن الموروث ساحةٌ تُصنع فيها المكانة وتُورَّث فيها الذائقة.
وفي جانبٍ آخر، للجمهور هنا وزنٌ حقيقي. فمسيرات الإبل المشاركة تحوّلت إلى قوة جماهيرية قادمة من شتى مناطق المملكة، تتبع المتسابقين وتدعمهم لحظة بلحظة حتى دخولهم منصة السباق. حضورٌ يصنع الهيبة، ويرفع حرارة المنافسة، ويحوّل الحدث من منافسة أفراد إلى مشهد مجتمع كامل يعيش التراث ويحتفي به.
ثم يكتمل المشهد إعلاميًا عبر برنامج مجلس الصياهد الذي أضحى مدرسة تحليل؛ يشرح لماذا تُقيَّم هذه الناقة ولا تُقيَّم تلك، وكيف تُقرأ التفاصيل وما الذي يصنع الفارق، ويقدّم القصة كاملة بلا صراخ يختنق به المعنى. والأهم أنه يطرح معيارًا ثم يبرهنه، ورأيًا ثم يسنده؛ على عكس ما تقدّمه معظم برامج تحليل كرة القدم. لذلك تكوّنت لدى كثير من الجمهور قناعة بأن تحليل الصياهد «أكثر إقناعًا» من تحليل مباراة.
لذا نقول: شكرًا بن حثلين، لأنك جعلت هذا المهرجان يخطف عقول الجمهور ويقدّم لهم نموذجًا يُدرَّس في كيف تُبنى فعالية كبرى تُقنع العقل قبل أن تُدهش العين، بتراثٍ سعوديٍ أصيلٍ مستدام.