فائز بن سلمان الحمدي
في لحظاتٍ نادرةٍ من تاريخ الأيام، تتجلّى الحقيقة عاريةً من الزخرف، صافيةً من الالتباس، في مشهدٍ واحدٍ يختصر المعاني الكبرى التي تعجز عنها المجلدات والخطب.
ومشهد رجل الأمن في المسجد الحرام، وهو يفدي بروحه روحًا أخرى، لم يكن حادثةً عابرة، ولا لقطةً طارئة في زحام الأخبار، بل كان آيةً أخلاقيةً قائمة، ونصًّا حيًّا يُتلى بالفعل قبل القول.
لقد تناقلت منصات الإعلام ووسائل التواصل خبر ذلك العمل البطولي الجليل، حين ألقى رجلٌ بنفسه من الطابق العلوي في المسجد الحرام، فكانت يد رجل الأمن أسرع من السقوط، وأسبق من الهلاك، وأقرب إلى الرحمة. لم يكن ذلك اندفاعًا أعمى، ولا حماسةً لحظةٍ عابرة، بل كان استجابةً فطريةً صادقةً، صاغها الإيمان، وربّتها المسؤولية، وصقلتها دولةٌ جعلت خدمة الحرمين الشريفين شرفًا يُتنافس عليه، لا وظيفةً تُؤدَّى ببرود.
وهنا، لا يجوز اختزال المشهد في بطولة فرد، مهما علت قامته، لأن الفرد في مثل هذه المواطن ليس إلا ثمرة غرسٍ طويل، ونبتةً نضجت في تربةٍ تعرف معنى الرسالة.
فالدولة التي تُشرّف رجالها بحراسة أقدس بقاع الأرض، لا تنتظر منهم مجرد الانضباط، بل تبني فيهم وعيًا رساليًا، يُدرك أن الأمن في الحرم ليس حماية حجر، بل صيانة روح، وحراسة سكينة، وتأمين دعاءٍ يعلو إلى السماء من أفواهٍ جاءت من أطراف الأرض.
إن رجل الأمن في الحرم ليس واقفًا على هامش المشهد، بل هو جزء من قدسيته، ظلٌّ للطمأنينة، وامتدادٌ لمعنى الأمان. وحين يختار في لحظةٍ خاطفة أن يجعل جسده حائلًا دون الموت، فإنه لا ينقذ إنسانًا فحسب، بل يعلن من حيث لا يدري أن هذا الوطن لا يزال يُنجب رجالًا إذا خُيّروا بين السلامة والواجب، اختاروا الواجب دون تردّد.
وقد أجمعت القلوب السليمة على الإشادة بهذا العمل النبيل؛ لأن الفطرة لا تخون نفسها، ولأن المعروف إذا وقع، عرفته الأرواح قبل أن تُعلّقه الأقلام،غير أن المشهد ذاته فضح مرةً أخرى أولئك الذين لا يعيشون إلا في ظلال السخط، ولا يتقنون سوى مهارة التعتيم، فإذا مرّت الحسنة ضاقت بها صدورهم، وإذا لمحت أعينهم سيئةً أو توهّموها تهلّلت وجوههم، واستبشروا بها كأنها نصر. وهؤلاء لم يتركهم الوحي دون توصيف، بل سمّاهم وفضح سرائرهم بقوله تعالى: «إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضرّكم كيدهم شيئًا إن الله بما يعملون محيط». فهي معركة قديمة بين نفسٍ تُحب النور ونفسٍ ألفت العتمة، بين من يرى في الخير حياة، ومن يرى فيه تهديدًا لوجوده القائم على الإنكار.
لكن الحق لا يستأذن أحدًا ليظهر، والخير لا يتوقف على اعتراف خصومه. يكفيه أنه كُتب في سجلّ الشرف، وحُفظ في علم الله، حيث لا تُزوَّر الوقائع، ولا تُشوَّه النيات. ويكفي ذلك الرجل أنه أدّى ما عليه وزاد، وأنه في لحظةٍ واحدةٍ ارتقى من رتبة الواجب إلى مقام الإحسان، ومن حدود الوظيفة إلى ذروة الإنسانية. إن مثل هذه المواقف تُعيد تعريف الوطنية بعيدًا عن الشعارات، وتُعيد تعريف التدين بعيدًا عن الادّعاء، وتثبت أن الأوطان القوية لا تُقاس بما ترفعه من لافتات، بل بما تُنجب من رجالٍ إذا داهم الخطر تقدّموا، وإذا غابت الأضواء ثبتوا، وإذا طُلب منهم العطاء بذلوا من أنفسهم قبل غيرها.
سلامٌ على يدٍ امتدّت في الزمن المناسب، وسلامٌ على قلبٍ قدّم غيره على نفسه، وسلامٌ على دولةٍ فهمت أن أعظم استثمار هو بناء الإنسان، وأن أصدق السيادة هي خدمة أقدس بقعةٍ في الأرض بصدقٍ وإخلاص. وسيظل هذا الخير شاهدًا، مهما حاولت الأصوات النشاز إنكاره، لأن الشمس لا تُحجب بغربال، ولأن الحق إذا سطع أعمى أعين الحاقدين، وأنار قلوب المؤمنين.