د. رانيا القرعاوي
أعتذر عن انقطاعي عن مقالي الأسبوع الماضي بسبب ظروف مرض الوالدة -شفاها الله- ومرافقتي لها في المستشفى. وخلال تلك الفترة، كانت هناك فرصة للمقارنة بين دور الذكاء الاصطناعي في تشخيص العلاج أو قراءة الأشعة، وبين دوره في صياغة الأخبار أو كتابة المحتوى في منصات التواصل.
والحقيقة أن دوره كان ناجحًا في قراءة الأشعة والإرشادات الطبية، لكنه غير ناجح في كتابة المحتوى، فخوارزمياته ثابتة، وهو ما يجعل القارئ يرى كثيرًا من المنشورات متشابهة. تبدأ دائمًا بجملة «في زمن تتسارع فيه، تمر عبر عناوين فرعية مقسّمة دون معنى، ثم تقف عند جملة نمطية من نوع: (ليس كذا أو كذا، بل كذا وكذا)، واستخدام (ــــــ) والفواصل المنقوطة، التي باتت تُستخدم في كل وقت، ودون الأسباب النحوية المعروفة لاستخدامها.
قرأتُ منذ فترة تقرير معهد رويترز لدراسة الصحافة ضمن تقرير الأخبار الرقمية، والذي تناول نظرة الجمهور لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الأخبار. التقرير يؤكد أن الثقة تتراجع عندما يشعر القارئ أن المحتوى الإخباري كُتب بالكامل دون تدخل بشري. ووفقًا لما ورد في التقرير، يميل الجمهور إلى تقبّل الذكاء الاصطناعي عندما يُستخدم في الخلفية، مثل تحليل البيانات أو اقتراح الموضوعات، لكنه يصبح أكثر تحفظًا عندما يتولى كتابة النص نفسه.
هذا التحفظ لا يرتبط بالخوف من التقنية، بل بالإحساس بالتشابه والرتابة. فالنصوص المصنوعة آليًا، تفتقر إلى السياق الإنساني، وإلى الحس التحريري القادر على اختيار الزاوية، وكسر القالب، وتحمّل مسؤولية الكلمة. وهو ما يجعل القارئ يشعر أن ما يقرأه يمكن استبداله بأي نص آخر دون فرق يُذكر.
وتتقاطع هذه النتائج مع ما أظهرته دراسات مركز بيو للأبحاث، التي أشارت إلى أن شريحة واسعة من الجمهور تعتقد أن استخدام الذكاء الاصطناعي في كتابة الأخبار قد يؤثر سلبًا في جودة المحتوى ومصداقيته، مقارنة بالمحتوى الذي يُنتَج تحت إشراف صحفيين. فالقارئ لا يبحث عن المعلومة فقط، بل عن طريقة سردها، وعن الإحساس بوجود عقل بشري يفكّر، ويختار، ويتحمّل تبعات ما يُنشر.
المفارقة هنا أن الذكاء الاصطناعي، الذي ينجح في المجالات العلمية الدقيقة، يفشل في المجالات التي تتطلب حسًّا إنسانيًا. فهو قادر على تحليل الأشعة، لكنه عاجز عن التقاط التفاعلات البشرية، أو فهم السياق الاجتماعي، أو كتابة جملة تحمل موقفًا أخلاقيًا واضحًا. لذلك، كلما زاد الاعتماد عليه في إنتاج المحتوى بالكامل، زادت المسافة بين النص والقارئ.
وأنصح هنا الجهات والمؤسسات أن تتوقف قليلًا عن الإكثار من كتابة “البوستات” والمحتوى اليومي لمجرد الحضور الرقمي، فالكتابة ليست مهارة يمكن تعويضها بأداة، تمامًا كما أن الموسيقى لا تصبح مؤثرة لمجرد توليدها تقنيًا. وإذا لم تكن لديك موهبة الكتابة، ولا حسّها، ولا وعيها، فلا داعي لممارستها كما لو لم تكن لديك موهبة موسيقية، فمن الصعب إنتاج موسيقى حقيقية بالذكاء الاصطناعي، ومن الأصعب إقناع القارئ بنص لا يحمل روح صاحبه.
وبالاستخدام الصحيح للذكاء الاصطناعي يمكن للإعلام السعودي تحسين التجربة الرقمية، والحفاظ على ثقة الجمهور ودوره كمنصة موضوعية وموثوقة في نقل الأخبار والمعلومة.