مرفت بخاري
في طريق الحياة تتقاطع أمام الإنسان محطات كثيرة؛ منها ما يهزّه، ومنها ما يرفعه. لكن بين كل تلك التحولات يقف صنفان من الناس لا ثالث لهما، من يملأ قلبه السخط فيرى الظلال أكثر من الضوء، ومن يختار الرضا بما قسمه الله، فيفتح له الخالق من الأزمات أبوابًا لم يكن يتخيلها.
فالراضي لا يرى في العثرات نهاية، بل بداية لمسار جديد، وإشارة إلهية لتجديد نمطٍ قديم لم يعد يثمر. إنه يؤمن أن كل ضيق يحمل حكمة، وكل تأخير يحمل لطفًا، وكل انكسار يخبئ في طياته نهضة. وهكذا، بينما يتعثر الساخطون بندم الغد، يمضي الراضون بثبات نحو اتساع الحياة، لأنهم وثقوا بأن الله لا يختار لهم إلا ما يخدم أرواحهم قبل خطواتهم.
ولعل الساخطين النادمين على خياراتهم المعلنة هم في ذات اللحظة مغيبون عن لطف الله الذي كان خلف كل الخسارات، فالرضا ليس رفاهية، بل تجربة يعيشها الإنسان في قلب المِحن. فمن عاش حياته واقعيًا، ورغم السقطات والخيبات، تمكّن من الحفاظ على هدوئه الداخلي، يجدّد الأمل يوميًا.
سيّدنا أيوب عليه السلام، الذي صبر على ألمه وأوفى بالثقة بالله، كان المنارة الأشمل للصابرين. ولكن هناك آخرون عاشوا في العصور المختلفة، لم يُخلّدوا في كتب التاريخ بالمعارك أو الإنجازات العظيمة، بل بتواضعهم في مواجهة الحياة.
ولعل أجمل ما في الرضا أنه لا يطلب من الإنسان بطولة خارقة، بل يدعوه فقط إلى أن يهدأ قليلًا، وأن يترك مساحة لله ليكتب ما هو أنسب له. فليس المطلوب أن نفهم معنى كل أزمة فور حدوثها، بل أن نؤمن بأنها جزء من تشكيلٍ أعمق لنراه لاحقًا أو ندرك أثره حين نكبر خطوة.
حين يختار الإنسان الرضا، يتغيّر داخله قبل أن يتغيّر واقعه؛ يصبح أكثر حكمة في مواجهة الخيبات، وأكثر قوة في استيعاب التحولات، وكأنه يكتسب بوصلة جديدة تُرشده إلى الطريق الأصح. ولأن الله لا يضيّع قلبًا أحسن الظنّ به، فإن كل باب يُغلق يفتح آخر، وكل تأخير يخفي حكمة، وكل انكسار يحمل في صمته بذرة نهضة. وهكذا، يصبح الرضا ليس مجرّد رد فعل، بل طريقة حياة تجعل الإنسان أقرب لنفسه، وأقرب لأقدار كُتبت له بعناية ومحبة.
البعض لا يهدأ ولا يرتاح له بال يرى انه عليه تغيير أحداث حياته فتارة يصطنع المواقف وتارًة يختلق الأكاذيب وتارًة يتمنى زوال نعم من حوله، فهم أناس تألقهم يشعره بنقصه وهوانه فلابد أن يواسيه بالأرض حتى يبرز ويظهر ويسطع نجمه، تجده استثمر حياته في الهدم لا البناء واستثمر مشاعره في الكراهية والحقد والحسد والأعمال الخبيثة لا الحب ولا الإخلاص، هم يظنون أنهم بهذه الأفعال يحاربون وينتزعون النجاح لحياتهم
غير مدركين بأن الأذى الذي كان أساس نجاحهم كان سماد الندم الذي سيصاحبهم إلى قبورهم، فما بني على الخبث والباطل باطل لا حياة فيه ولا ثمر، هم سيجنون ثمار الغل والحقد على صور أمراض مزمنة، صفعات متتالية ولعل اهم الخيبات ستكون من أكثر شخص حاربت الدنيا بخبث من اجله، سترى كل خيبة منه مرأى العين فقط لتشاهد بأم عينها هل كان يستحق كل هذه الحروب عندها فقط تنهال عليها خيبات الأرض في كل اتجاه فإذا سخط الله على عبده أزال عنه كل مصادر النعم لنا في قارون آية.
وفي نهاية المطاف، لا يبقى في قلب الراضي سوى طمأنينةٍ تشبه اليقين بأن الله كان معه في كل خطوة، وأن الخسارات التي أثقلته يومًا كانت تمهيدًا لعطايا أوسع. فالراضون لا يخسرون حقًا، حتى لو تلاشت أحلام أحبّوها، أو انطفأت أبواب طرقوا عليها طويلًا؛ لأن العِوض عند الله يأتي على هيئة سلام داخلي، أو قلب أقوى، أو باب يُفتح لهم بلا حولٍ منهم ولا قوة. وهؤلاء، مهما تعثرت مسيراتهم، تُكتب لهم النهايات الجابرة، تلك التي تُنسيهم مرارة السنين وتُثبت لهم أن الرضا لم يكن ضعفًا ولا انسحابًا، بل كان أعظم أبواب الفرج. فالله لا يُخيّب قلبًا أحسن الظنّ به، ولا يترك يدًا رفعت إليه إلا وأعادها مليئة بما يناسبها، ولو بعد حين. وهكذا يعيش الراضون سعداء، لا لأن حياتهم بلا ألم، بل لأنهم أدركوا سرّ السعادة الحقيقية: أن يكون القلب مطمئنًا بما يختاره الله.. لا بما تختاره الأيام.
كونوا بخير!!