فيصل بن محمد فياض البارودي
خلال فترة هطول أمطار الخير على ربوع مملكتنا الغالية، وفي أثناء عودتي من الدمام إلى الرياض مستخدماً سيارتي، واجهت ظروفاً جوية صعبة تمثلت في أمطار متفاوتة الغزارة ومتقطعة بين الفينة والأخرى، وكانت هذه الرحلة من أطول الرحلات التي قمت بها على مدار سنوات طويلة حيث امتدت لما يقارب ست ساعات نظراً لصعوبة القيادة بسرعة وللازدحام الشديد في طريق الدمام - الرياض، وكذلك بسبب توقف الحركة المرورية شبه التامة بعد نقطة تفتيش الرياض مباشرة.
خلال هذه الرحلة لاحظت أن سائقي (المركبات) انقسمت ردود أفعالهم تجاه الظروف الجوية على النحو التالي:
1- هناك من توقف تماماً على جانب الطريق ريثما تهدأ الأمطار وتستقر الأحوال الجوية.
2- هناك من استمر بقيادة مركبته مع أخذ الاحتياطات المناسبة من تخفيض سرعته وتشغيل الإشارات التحذيرية والقيادة في المسار الأوسط عند اشتداد غزارة الأمطار (كما فعلت أنا).
3- هناك من استمر في قيادته لمركبته (شاحنة، سيارة أو دراجة نارية) بالسرعة القصوى المسموح بها في الطريق.
4- هناك من استمر بقيادة مركبته متجاوزاً لواحد أو أكثر من الضوابط المنظمة لاستخدام الطرق، من قيادة متهورة بسرعة تفوق السرعة المسموح بها، واستخدام أكتاف الطريق للتجاوز، والاقتراب الخطر من المركبات التي تسير أمامه، خروج الشاحنات عن المسار الأيمن وبسرعة تزيد عن المسموح بها.
عند ملاحظة اختلاف ردود أفعال مستخدمي الطريق السريع من أقصى النقيض إلى أقصى النقيض، ونظراً لاستخدام أمثلة السيارات والحركة المرورية في مبادئ ومفاهيم إدارة المخاطر عند توضيح الفكرة لغير المختصين بها، راودني أثناء الرحلة سؤال مهم هل شهية المخاطر تبقى ثابتة (بالرغم من اعتمادها) طوال الوقت وفي كافة الظروف والحالات؟
قبل التوسع في الفكرة لنتعرّف على مفهوم شهية المخاطر، والتي تعرف باختصار وببساطة بأنها رغبة المنشأة في المخاطرة أو المجازفة في أعمال أو خدمات أو استثمارات أو غيرها من الأمور في عالم الأعمال أو الخدمات التي تكون المنشأة مستعدة لقبولها، إلا أنها تختلف من منشأة إلى أخرى ومن إدارة إلى أخرى ومن مجال عمل إلى آخر، فهي تعتمد على فلسفة الإدارة في قيامها بأعمالها وإدارة شؤونها، فهناك إدارة لديها فلسفة أعمال متحفظة في عملها ولا ترغب بالمخاطرة بشكل مطلق (إلا بما هو مضمون) أو مخاطر متدنية، وهي تشبه النموذجين الأول والثاني من قائدي المركبات الذين توقفوا على جانب الطريق أو الذين اتخذوا احتياطاتهم بشكل معقول، وهناك فريق آخر لديه فلسفة في إدارة أعمالها وفُرَصِها التي ترغب في المخاطرة من خلالها وهي تشبه النموذج الثالث لقائدي المركبات. كما يشبه النموذج الرابع لكن يعتبر أكثرهم خطورة نظراً لتجاوزهم الخطوط الحمراء في إدارة أعمالهم لحد التهور الممزوج أحياناً بتجاوزات سواء كانت مالية أو قانونية أو في الصلاحيات وغيرها من التجاوزات غير المقبولة.
تقوم المنشآت بوضع واعتماد أطرها التنظيمية وسياساتها الخاصة بإدارة المخاطر التي من خلالها يتم إدارة وتشغيل المنشأة، بما يمكنها من تحقيق أهدافها والغايات التي من شأنها وجدت إما لتقديم خدمات عامة أو تجارية أو منتجات أخرى.
وفي سياق ما تقوم بها المنشآت تحدد إلى أي مدى ستقوم بالمجازفة/المخاطرة في أعمالها وعملياتها في مختلف تخصصاتها، ونعود للسؤال المطروح مرة أخرى هل شهية المخاطر في المنشآت واحدة؟ وهل شهية المخاطر في المنشأة ذاتها ثابتة أو يمكن اعتمادها في جميع الأحوال والظروف؟
للإجابة على هذا السؤال هناك سؤالٌ آخر يجب نسأله لأنفسنا؛ وهو هل نستطيع تحديد جميع الظروف المحيطة (الخارجية والداخلية) والسيطرة عليها أو التحكم بها؟
بالرغم من قيامي بالاطلاع بشكل سريع على تنبؤات الأحوال الجوية للمنطقتين الوسطى والشرقية قبل الانطلاق من الرياض إلى الدمام، إلا أن تغيرات الأحوال الجوية كانت مباغتة وسبقت ما تم الإعلان عنه بأنها ستبدأ في اليوم التالي لرحلة عودتي للرياض.
وهذا فعلاً يمثل الأساس المنطقي الذي تقوم عليه مفاهيم إدارة المخاطر والتي عادة ما يطلق عليها مصطلح VUCA، وتتمثل في التقلب Volatility وعدم اليقين Uncertainty وتعقد العمليات في مجريات الأمور Complexity والغموض فيما ستؤول إليه الظروف في المسقبل Ambiguity ، لذلك تجد إدارة المنشآت صعوبة في اتخاذ القرارات في ظل هذه الظروف، لذلك تقوم بالتنبؤ بالمستقبل من خلال تحليل الظروف والمواقف التي تقع المنشأة في محيطها أو تكون ضمن البيئة الداخلية للمنشأة ومعها برزت أهمية قدرتها على تحليل أكبر قدر ممكن جمعه من البيانات والتي باتت الأخيرة بدورها ذات قيمة كبيرة، ودونها لا تستطيع المنشأة اتخاذ قرارات مستنيرة تعتمد على دروس الماضي وتقرأ الحاضر وتستشرف المستقبل.
وبالرغم من ذلك وفي ظل التغيرات السريعة في جميع نواحي حياتنا اليومية وفي ظل وجود هامش من الخطأ في قراءة وتحليل البيانات التي تم الحصول عليها، يبقى تمرس الإدارة وقدرتها على اتخاذ قرارات تتكيف مع الظروف التي قد تتغير ليس فقط بين عشية وضحاها بل التي قد تتغير بين ساعة وأخرى أو حتى دقائق، وبالتالي قد تتغير فلسفة اتخاذ القرارات بالرغم من وجود تحديد واضح لشهية المخاطر تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات التي أصبحت واقعاً ولا بد من التكيف مع الأحداث الجديدة التي يجب التعامل معها بالشكل والسرعة اللازمين، إما تفادياً لتحقق المخاطر والانتقال لمرحلة الحدث أو الأزمة، أو لاقتناص فرصة لاحت سريعاً يعتبر تفويتها خسارة لا يمكن تعويضها.
وبالعودة لمثال قيادة المركبات في طريق السفر أثناء الجو الممطر، نجد تفسيرات لتكيف قائدي المركبات مع الأحوال الجوية وظروف الطريق خلال هذه الأجواء، ونوعية تفكيرهم تجاه هذه الظروف والأحوال وتعاملهم معها خلال رحلاتهم.
وتبقى المشكلة الأكبر في المتهورين الذين يتخذون قرارات دون وعي أو إدراك لما هم مقبلون عليه دون أن تكون قرارتهم مبنية على أي أساس سوى الارتجال أو التهور غير محسوب العواقب (مع تجاوز الأنظمة المرورية في الغالب)، اللذيْن أديا إلى عدة حوادث مرورية قوية جداً أدت لتأخر وصولي للمنزل ما يقارب ساعتين إضافيتين عما هو معتاد، ولست وحدي من تأثر سلباً بهذا التهور، وإنما مئات السيارات بمن فيها من ركاب تختلف ظروفهم وحاجتهم للوصول السريع إلى مبتغاهم من عدمه.
وهذا التهور في التعامل مع الظروف الاقتصادية المحيطة والرغبة الجامحة في اقتناص الفرص قد تؤدي إلى مخاطر ليس فقط على مستوى المنشأة وإنما قد يمتد ليطال اقتصاد دولة أو عدة دول أو العالم بأسره، كما حدث في كثير من الأزمات الاقتصادية العالمية.
** **
- مستشار مراجعة داخلية وحوكمة ورقابة