عايض بن خالد المطيري
في سياق التحولات التي تشهدها السعودية ضمن رؤية 2030، لم يعد الخبر يُصاغ في قاعات التحرير أو يُناقش في البرامج الحوارية، بل أصبح يخرج مباشرة من الحسابات الرسمية للوزارات على منصات التواصل الاجتماعي. يُبث الخبر في ثوانٍ، مصحوبًا بصور وفيديوهات مختصرة، ويصل إلى ملايين المتابعين بلا وساطة. هذه السرعة قد تُرضي جمهورًا اعتاد الإيجاز والرسائل المباشرة، غير أنها تضعف الدور التاريخي للإعلام وتُحوّل الصحافة من مهنة مساءلة وتحليل إلى متلقٍ ثانوي وربما متفرج. منذ عقود كان المواطن ينتظر صحيفة صباحية أو برنامجًا حواريًا مسائيًا ليعرف تفاصيل إنجازات الدولة أو ليطّلع على قضايا الساحة. كانت الصحافة آنذاك ساحة للنقاش العام، تمنح القارئ زوايا متعددة لفهم الحدث، وتطرح أسئلة لا يجرؤ الحساب الرسمي على الاقتراب منها. أما اليوم، فإن وزارات بكامل ثقلها تمارس أدوار «المخبر» و»المحقق» و»المُعلّق» في آن واحد، وتقصي الإعلام بجميع وسائله من وظيفته الطبيعية تفسير ما وراء الحدث، وقراءته في سياقه، وفتح باب النقد البناء. تجربة إحدى الوزارات التي أعلنت عبر حسابها عن «تعدي واختلاس» من خلال قيام مواطنين بإيصال الخدمة للمنازل بطرقة غير نظامية، وقيام الجهة بتصوير منازلهم والتشهير بهم عبر حسابها. فقد انتشر الخبر كالنار في الهشيم، لكن لم يُسمع صوت المتهمين، ولم تُناقش الأسباب وراء المخالفة، ولم يُطرح سؤال العلاج والوقاية. بقي المشهد من طرف واحد وزارة تُدين وتُشهِّر، وجمهور يصفِّق أو يستنكر بلا معرفة كاملة.
أكاديميون ومتخصصون سبق أن حذَّروا من هذا الانزلاق الخطير، مشيرين إلى أن استبدال الإعلام بالإعلان يُفقد المجتمع أداة نقدية ورقابية أساسية، ويحوِّل الصحافة إلى مجرد «أرشيف إلكتروني» خالٍ من العمق.
هذا التحول لا يضر الصحفيين وحدهم، بل يضعف المجتمع بأسره، إذ يقلِّص تنوّع مصادر المعرفة، ويفتح المجال أمام الأخبار الكاذبة، ويشوِّش على الحدود الفاصلة بين الدعاية والرسالة الإعلامية.
المطلوب ليس أن تكف الوزارات عن نشر أخبارها، عبر حساباتها، بل أن تعيد الاعتبار للإعلام باعتباره شريكًا لا منافسًا. فالمعلومة لا تكتمل إلا بالتحليل، ولا تُفهم إلا بالسياق، ولا تُثمر إلا بالنقاش. وإذا تحوَّل المشهد الإعلامي إلى هكذا، فإنه سيخسر واحدة من أهم أدواته الإعلامية، وسيُترك الفراغ لمنصات غير موثوقة تملؤه بما تشاء.
إن المملكة التي تنهض برؤية طموحة لا يمكن أن تُحقق كل أهدافها من دون إعلام ينهض بدوره أيضًا؛ إعلام شريك ومحلِّل وناقد بنَّاء، طالما أن هناك صوتاً يُسمع للحقيقة كما هي توجيهات قيادتنا.