فاطمة آل مبارك
في المشهد الصحي، تتشكَّل فجوة صامتة لا يلتفت إليها كثيرون، لكنها تتسع يوماً بعد يوم بين المراجع والمنشأة.
فجوة لا تُقاس بعدد الأسرة ولا بساعات الانتظار، بل بمدى وعي كل طرف بدوره داخل المنظومة، وبقدرة النظام الصحي على بناء علاقة قائمة على الفهم لا على ردود الفعل الانفعالية.
حين يدخل المراجع إلى المنشأة الصحية، يكون محملاً بالألم والقلق، باحثاً عن طمأنة سريعة ونتيجة فورية، فالوجع لا يمنح صاحبه ترف الوقت لاستيعاب تعقيدات الإجراءات، ولا فهم منطق الفرز الطبي أو أولويات الخدمة، يصل الكثير من المراجعين وهم يحملون تصورات مسبقة، تشكَّلت عبر تجارب فردية أو محتوى متداول في وسائل التواصل الاجتماعي، لا يعكس الصورة الكاملة للممارسة الطبية.
في المقابل، تعمل المنشأة الصحية ضمن إيقاع نظام دقيق، تحكمه آليات واضحة للفرز، ومسارات علاجية، وضوابط تنظيمية تهدف إلى تحقيق العدالة وسلامة الجميع.
غير أن المراجع لا يرى من هذا النظام إلا واجهته الخارجية، فينشأ لديه انطباع بأن حقه في الخدمة يتيح تجاوز الإجراءات، بينما تدرك المنشأة أن الالتزام بالنظام هو الضامن الوحيد لإنصاف جميع المرضى دون استثناء.
وبين التوقع الطبي والواقع العلاجي، يبرز تحد إضافي يتمثَّل في ضغط الخدمة فازدحام العيادات وأقسام الطوارئ يقلِّل من مساحة الشرح والتواصل، ويحول التفاعل أحيانًا إلى إجراء سريع بدل أن يكون شراكة علاجية قائمة على الحوار والفهم المتبادل.
وتتعمَّق الفجوة أكثر في ظل غياب الشفافية التشغيلية. فحين لا يفهم المراجع أسباب التأخير، ولا معايير الأولوية، ولا مسار رحلته العلاجية منذ لحظة دخوله المنشأة، يتحول الانتظار إلى مساحة للتوتر والشك. كما يسهم ضعف الثقافة الصحية العامة في تعميق هذه الفجوة، حيث يفتقر كثير من المراجعين إلى إدراك الفروق بين الرعاية الأولية، والطوارئ والتخصصات الدقيقة، مما يؤدي إلى سوء استخدام الخدمات، وارتفاع مستويات التوتر، وتزايد الشكاوى، ولا يمكننا أيضاً إغفال دور الإعلام غير المتخصص، الذي قد يضخ معلومات طبية مبتورة أو مثيرة، فيربك المشهد الصحي بدل أن يعزَّز الوعي العام.
عند هذه النقطة، يتكرَّس سوء الفهم يشعر المراجع بأن المنشأة تبطئ أو تقصر، بينما ترى المنشأة أن المراجع لا يدرك حجم العمل المعقد الذي يجري خلف الأبواب المغلقة. وبين رؤيتين متباعدتين، تضيع اللغة المشتركة، وتتولّد توترات تثقل التجربة الصحية على الطرفين، غير أن هذه الفجوة ليست قدراً محتوماً.
فهي قابلة للردم متى ما أعيد للوعي الصحي موقعه الحقيقي، ومتى ما أتيح للمنشأة أن تشرح، وللمراجع أن يستمع، مع إدراك مشترك بأن الهدف النهائي هو صحة الإنسان لا مجرد إنجاز الإجراء.
يبقى السؤال الجوهري: كيف يُبنى الوعي الصحي بين المراجع والمنشأة؟
الإشكال لا يكمن في غياب المعلومة، بل في كيفية تداولها وفهمها. فالمعلومة، حين تقدم دون سياق موحّد أو بلغة متباينة، تتحول من أداة تمكين إلى مصدر ارتباك.
وهنا يظهر الإعلام الصحي كجسر مهني حيوي بين المراجع والمنشأة، قادر على إعادة تعريف التواصل الصحي، وتصحيح المفاهيم، وتقديم المعلومات الموثوقة بطريقة موجهة وفق الفئة العمرية، مستوى التعليم، الحالة الصحية، والموسم الصحي. وعندما تتكامل هذه الرسائل مع الخطاب المؤسسي للمنشآت الصحية، تتشكَّل لغة مشتركة تُسهِّل التواصل، وتقلِّل الاحتكاك، وتعيد الثقة بين المراجع ومقدِّم الخدمة.
ولا يقل أهمية عن ذلك توحيد الخطاب الصحي داخل المنشآت نفسها؛ فاختلاف الرسائل بين الطبيب، والتمريض، والاستقبال، يربك المراجع ويزيد الفجوة بدل ردمها.
إن بناء لغة صحية مشتركة تنطلق من رؤية مؤسسية واحدة وتترجم إلى ممارسات يومية يشكِّل حجر الأساس لتعزيز الوعي الصحي بشكل مستدام ويمثِّل اعتماد مفهوم القرار العلاجي المشترك أحد الحلول الفعَّالة، حيث يوضِّح للمراجع الخيارات العلاجية المتاحة، ومخاطر كل منها، ويستمع لتفضيلاته، ليصبح العلاج شراكة واعية تقلِّل من سوء الفهم والتصعيد غير المبرر، وتمنح المراجع الوقت الكافي للفهم والمشاركة في اتخاذ القرار، مدعوم بمواد توعوية رقمية واضحة قبل وأثناء العلاج كما يُعد الاستثمار في التثقيف الوقائي من أكثر الخيارات الإستراتيجية تأثيرًا، خاصة حين يُقترن بتعزيز دور طبيب الأسرة كنقطة اتصال أولى قادر على قراءة الأعراض، وتقدير مستوى الخطورة، وتوجيه المراجع إلى المسار العلاجي المناسب، بما يمنع التصعيد غير الضروري للحالات البسيطة إلى مستويات رعاية أعلى.
وعلى مستوى المجتمع، تشكِّل الممارسات الصحية المسؤولة ركيزة أساسية في معادلة الوقاية، مثل حصر التوجّه إلى أقسام الطوارئ في الحالات الحرجة، الاعتماد على الرعاية الأولية للحالات البسيطة، الالتزام بمواعيد العيادات، وعدم إساءة استخدام الخدمات الإسعافية.
ويُعزِّز هذا المسار من خلال ربط الوعي الصحي بالتعليم المجتمعي، بإدخال مفاهيم الصحة والوقاية ضمن المناهج الدراسية، لتنشئة أجيال أكثر وعيًا ودورًا فاعلًا داخل المنظومة الصحية ولا يغيب عن الاعتبار تدريب الكوادر الصحية على مهارات التواصل الإنساني، إذ غالبًا ما تكون طريقة إيصال المعلومة أكثر أثرًا من المعلومة نفسها.
فالتواصل الواضح، المهني، والمبني على احترام المراجع، يعزِّز التزامه ويقلِّل من ارتباك المنظومة.
صفوة القول، إن الوعي الصحي مسؤولية وطنية مشتركة، ومنظومة متكاملة قوامها تواصل واضح، ومسؤولية متبادلة، وإعلام واع فالتحدي الحقيقي يتجاوز اللحظة العلاجية إلى بناء وعي مجتمعي طويل الأمد، يربط بين طرفين يفترض أن يجمعهما هدف واحد: «إنقاذ حياة الإنسان» وتحويل الوعي الصحي من مجرد معرفة إلى ممارسة يومية تعيد المنظومة من إدارة المرض إلى صناعة الصحة.