د. فهد بن أحمد النغيمش
حين يتناقل البعض مصطلح (الطيبين) يتبادر مباشرة إلى الذهن جيل الصفاء والنقاء وسلامة القلب والقرب من الله، أضافة إلى أن هذا الجيل يمتاز عن غيره بصفة عظيمة جليلة تلازم وصفه ورسمه حتى وإن وهن العظم بأحدهم واشتعل رأسه شيباً، فلا يزداد مع مرور السنوات الا انتماء للمسجد وملازمة للمصحف، وهم بذلك قد حازوا الخيرية التي جاءت في الحديث الصحيح، حين قال صلى الله عليه وسلم «خيرُ الناسِ مَنْ طالَ عمرُه وحَسُنَ عمَلُه» هذا الجيل الذي بدأ في التناقص والاضمحلال والاندثار جدير بنا أن نقف عند محطاته الايمانية ووقفاته التربوية، و التي عايشنا بعضاً منها ولمسنا نزرا يسيرا من أحوالهم.
من أولئك الجيل -أعني جيل الطيبين- افتقدنا قبل فترة ليست ببعيدة جاراً عزيزا على قلوبنا وغاليا بين أوساطنا، يعد حقيقة من الرعيل الأول الذين شبوا ونشأوا على حفظ كتاب الله وعلى ملازمة المسجد رغم كبر سنه وفقده بصره، وعدم وجود أبناء يقودونه إلى المسجد.. ذلكم هو الشيخ: عبدالعزيز بن عبدالعزيز السعود الفارس، والذي ذاق مرارة اليتم وهو لم يخرج بعد إلى الدنيا، فلم تكتحل عيناه برؤية أبيه الذي غادر الدنيا وهو جنين في بطن أمه، ثم خرج إلى الدنيا، كما أخبرني بذلك في كثير من أحاديثه التي تنبض بالحكم والدروس والخبرات بأنه عانى شظف العيش من الجوع والتعب والفقر مع اليتم..
تولت والدته تربيته حتى بلغ عمره 15 عاماً وسافر إلى الكويت وهو في مقتبل العمر ليؤمن لقمة عيشه ويسد جوع أمه، تعلم الكتابة والقراءة هناك وحفظ ما تيسر له من القران الكريم ثم رجع إلى والدته وعاش بين الرياض ومسقط رأسه (التويم بسدير).. لم يرزقه الله ذرية طيلة عمره، وعاش صابرا محتسبا شاكرا ذاكرا لله، ثم كفّ بصره وعمي وأصبح يجد مشقة في الوصول إلى المسجد، لكن ذلك لم يمنعه أو يبرر له عدم شهود الصلاة جماعة في المسجد عذرا له، فعلم الله صدق نيته وسخر له من يأخذ بيده إلى المسجد من جيرانه الذين تعاهدوه كما يتعاهد الابن أباه وهو ابن الخالة: الأستاذ محمد بن عبدالمحسن العبيد وأبنائه البررة فتعاقبوا وتسابقوا في إيصاله للمسجد خمس مرات يوميا بما فيها صلاة الجمعة، وهنيئا لهم تلكم الدعوات التي كانت تنطلق من فيه رحمه الله، وهنيئا لهم أجر وفضل قضاء حاجة المسلم التي جاءت في الحديث الصحيح،عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (ومَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته) الحديث..
كان حسن الصوت في تلاوته للقران حتى إن ترتيله للقران يعيدك إلى أصوات وترانيم الأجداد من خلال عذوبة صوته وعدم تكلفه وقد تناقل الكثيرون تلاواته المسجلة والتي أثرت في أنفسهم ووجدوا فيها راحة وسكينة وطمأنينة، رحل رحمه الله بعد أن ترك اثراً في النفوس حزينة على فقدان صورة من الصور الناصعة، ورغم مرضه الأخير الا أني وجدت في حسن ثنائه على ربه الشيء العجيب، فقد عدته في مرضه مرة من المرات فسر بي وقال: يا فهد أنا لا أرجو الا رحمة ربي فقط فأنا المذنب المخطئ، ولكن رحمة ربي أوسع وأشمل وعسى ربي أن يرحمني برحمته، ولعمري لقد كان آخر لقاء جمعني به لكنه كان لقاء مختلفاً مليئاً بحسن الظن بالله سبحانه، وحسن الثناء على ربه بالنعم التي يعيشها..
غلّب جانب الرجاء والرحمة على الخوف، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله) وهذا من عاجل بشرى المؤمن، فقد دخل صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على شابٍّ وهو في الموتِ فقيل: كيف تجِدُك قال أرجو اللهَ وأخافُ ذنوبي فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (لا يجتمعان في قلبِ عبدٍ في مثلِ هذا الموطنِ إلَّا أعطاه اللهُ ما يرجوه وأمَّنه ممَّا يخافُ).
اللهم اغفر وارحم عبدك الضعيف عبدالعزيز السعود الفارس، وأعل منزلته وارفع درجته وتجاوز عنه يا أرحم الراحمين.