عبدالمحسن بن علي المطلق
رحل أستاذي وقرة عين ملتقى أبحاثي، ورقيم تنقيبي.. الأخ الأكبر عمراً وقدراً، ذو المكانة السامقة في الحنايا (محمد بن عبدالله الحمدان).
وكم من الأثقال على الكاهل ترزأ بفقد أمثال ذاك الشغوف بالكُتب والصحف التي قد يُحسب المرجع الأول فيها.
دخلت يوماً منزله بعد أكثر من موعد كنت السبب في إخلاف ما سبق منهن.. فإذا الدور الأرضي (على ما أذكر.. قبو) وأعداد لا تكاد عيني تلمّ بأطراف تجمّعها للصحف، وأخص هنا (صحيفة الجزيرة) وقد أهداني -بالمناسبة- نسخة (ورقيّة) لأوّل أعدادها.. ليس لأنه كاتب فيها، وهذا (وإن كان) فهو شيء من حقّها عليه، المهم أني وجدت عنده كافّة الأعداد تسلسلياً من وقت إصدارها.
ها هو وتحديداً (الأحد الثاني من رجب) يرحل، يرحل.. وما أذكره انتظر يوماً ثناءً من أحد، وها أنا أقوم (وإن كنت والحمد لله وحده كتبت عنه قبل عقد من الزمان.. مادة عما شاهدته في زيارة نوّهت عنها بما تقدّم).. وقد أخذ عدم ولهه بالمدح من السلف، فهم القدوة.. قال بشر الحافي -رحمه الله- (لا تعمل لتُذْكَر، اكتم الحسنة كما تكتم السيئة)، لكن لا.. ليس من الحق والدِّين والبحث العلمي والأدبي أن نزيّن كُتبنا أو أي من عطاءاتنا مما اشتققناه منه، ثم وقلّ ما سعينا لسداد حقه، عفواً أقصد ذاك الإمداد، فإن كان هو لا يعبأ.. فأين الشكر الذي أمر به ديننا، أو جعله كدين -قرض-، نعم رحل.. وبه أنعم، فهو من تعلّمت منه دروساً لا درساً، لعل في صدارة تلكم أن تربية المرء بما يكتبه هو مكسبه الأوّل من تلكم. كما وتعلمت منه أن الهدف البعيد طعمه أكبر، ولو نأت عنا حظوظ تحقيقه.
تعلّمت منه كيفية الرقّة الذاتية التي تبدو بما أشاهده من شخصه وطرائق تعامله، والرقّة التي أعني هي من رامها الشافعي -رحمه الله- (من طالع في اللغة رقّ طبعه).
- تعلمت منه قلباً لا يكاد يحمل فيه مثقالاً لهذه الدنيا!، لم أعجب وصحيفته الجزيرة تنعيه بذكرٍ لعمره ال90، حيث وُلد في عام 1357ه.. في بلدة (البير) أحد مراكز
محافظة المحمل - أقل من 140 كيلومتراً شمال الرياض من الغرب قليلاً -، لكن العجيب لم تُرَ عليه أمارات العقود التسعة.. التي اعتدنا أماراتها بغيره، ولعلي أهمس لكم سرّاً مهماً عن أحد الأسباب.
يوماً (عف) الخليفةُ المنتصر بالله عن أبي العَمَرّد الشاري، وقال: لذّةُ العفو أعذبُ مِن لذّةِ التشفِّي، وأقبحُ فِعَال المقتدرِ الانتقامُ.
- تعلمت منه أن المطالعة حبّ، والقراءة شغف، والتمعّن بالعطاءات الجديدة لهفة.
- تعلمت منه أن (الأستاذية) ليست حِكراً على الفصول الدراسية، ولا محصورةً بين أروقة القاعات، فكم من أستاذ مدك بمعلومات قصرت عنها المناهج.
- تعلمت منه أن القرب من الناس له وسائل أدناها المال، فيما في صدارتها الأخلاق المقرونة بالابتسامة، وفي الشفاعة، ولين التعامل، فيما التبسّط أكبر جاذب يعلقك بالآخر حتى جعلت منه وثير العطاء، جاء في أبيات لطيفة في جمع (حسنيين) مثلاً:
بشَاشَةُ وجْهِ المَرءِ خيرٌ مِن القِرَى
فكيفَ بمَن يأتي بها وهو ضاحِكُ
- تعلمت منه أن العمر الذي بيني وبينه هو رقم لا سنين ولا خبرات.. فقد كان يفرح أيما فرح بأي معلومة جديدة عليه. بل حتى تلكم - غير الجديدة - يستقبلها كما لوّح بها بيت لأبي تمام بصراحة يشخب معناه السمع:
وتراه يصغي للحديث بطرفه
وبقلبِه، ولعلّه أدرى بهِ!
وربما أسمعك جملة (كفى قدر من ذكرها أنه ذكّرك بما تستودعه من جماليات).
- تعلمت منه كيفية المشاركة الوطنية كيفية رَفد خُطى التنمية بل (كيف هو حبّ الوطن).
تعلمت منه ما لا أنتهي من ذكر ما يرتقي لسطح ذاكرتي حين أطالع أي مادة له.
برحيلكم أبا قيسٍ..» أيقنت بدلالة أنك إن خالطت الناس تكشف لك يقينًا أن الأخلاق مثل «الأرزاق» تماماً، أي أنها قسمة من الله.. فيها غني وفيها فقير، وهنا فإن الله وحِينما أرادَ وصف نبيهُ لَم يصف نسَبهُ ولا مَالهُ ولا شَكلهُ!، لكنهُ قال (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، ولعل من أجمل أنواع الرزق: «أن يضع الله لك قبولاً في قلب من يراك». فلا أذكر من عرفه إلا وزادت عُرى التواصل معه.. رحمه الله برحمته الواسعة، وجعل الفردوس له نزلاً.