د. سامي بن عبدالله الدبيخي
في تقرير حديث نشرته مجلة «الإيكونميست» في 13 ديسمبر، يُسلط الضوء على واقع مرير يعيشه ملايين السكان في العديد من المدن الكبرى الآسيوية. جاكرتا، عاصمة إندونيسيا، تتصدر قائمة أكبر المدن سكاناً في العالم بـ42 مليون نسمة، متجاوزة طوكيو التي احتلت الصدارة لسبعة عقود. تليها دكا في بنغلاديش بـ37 مليوناً ثم دلهي وشانغهاي بـ30 مليوناً.
تشهد هذه المدن نمواً كبيراً وزحفاً عمرانياً هائلاً، لكنها بدل أن تكون نموذجًا للرفاهية والازدهار تحولت العديد منها إلى فخاخ للفقر والحرمان بسبب عدم توفر فرص العمل والازدحام الخانق والتلوث والفشل في التنسيق الحكومي، لدرجة أصبحت تُصنف ضمن أسوأ المدن للعيش عالميًا وتُسمى في بعض التقارير بالمدن البائسة.
إن جوهر هذه المعاناة لا يكمن في فقر الموارد بقدر ما يكمن في عدم التنسيق الإداري والحوكمة. فجاكرتا، على سبيل المثال، تمددت لتشمل مدنًا مجاورة، لكنها تُدار بأسلوب مفكك يفتقر للتنسيق. تتجلَّى تكلفة هذا الغياب للحوكمة الرشيدة في قطاع النقل. ففي جاكرتا، يتوقف خط المترو فجأة عند الحدود الإدارية للمدينة، عاجزًا عن خدمة الضواحي المكتظة بالسكان، لأن البلديات المتجاورة لا تنسق إداراتها بعضها مع بعض. هذا الخلل وحده يكلِّف اقتصاد جاكرتا 6 مليارات دولار سنويًا بسبب الازدحام. أما في دكا، فيعاني العمدة من عدم امتلاكه صلاحية حل 80 % من مشاكل مدينته لأن المسؤولية مشتتة بين عشرات الوكالات والوزارات والجهات.
في المقابل، يقدِّم لنا النموذج الياباني في طوكيو، والنموذج الصيني في شنغهاي، درسًا في الحل. فقد نجحت طوكيو لأن حكومة طوكيو الكبرى تتولى إدارة الخدمات الكبرى وتنسق بفاعلية مع البلديات الفرعية. هذا التنسيق المركزي هو الذي سمح بوجود شبكة قطارات تربط المنطقة ببعضها، حيث يعيش 90 % من السكان على بعد 20 دقيقة مشيًا من أقرب محطة. هذه الحوكمة الرشيدة التي ترسم حدود الاختصاصات بوضوح وتعزِّز التعاون، تحول المدن إلى محركات اقتصادية فعَّالة.
وهنا، يحق لنا استحضار تجربة الرياض التي أدركت مبكرًا أن الحلول المجتزأة لا تجدي نفعًا، فقدمت نموذجاً ناجحاً يُثبت أن الحوكمة الرشيدة لا تحتاج إلى استثمارات هائلة فحسب، بل إلى التنسيق الجيد تحت قيادة مركزية موحَّدة تمنع التشتت الإداري. فمنظومة الحوكمة تربط بين الهيئات والجهات البلدية والقطاع الخاص تحت مظلة رؤية 2030 بهدف جعل «جودة الحياة» في صلب القرار العمراني.
فمشروع مترو الرياض كجزء من هذه الرؤية، كما أشرنا لذلك في مقال سابق لنا بعنوان «قطار الرياض.. إلهام من مدرسة سلمان»، والذي افتتح بالكامل في 2025 كأطول شبكة قطارات بدون سائق في العالم (176 كيلومتراً)، يزيل نحو 250 ألف رحلة سيارة يومياً، موفراً 400 ألف لتر من الوقود مقللاً بذلك الازدحام والانبعاثات الكربونية. هذا النجاح يأتي من وجود جهة واحدة مسؤولة عن التخطيط الشامل، شبيه بما هو حاصل في المدن المليونية الناجحة: شانغهاي وطوكيو.
ختاماً: إن الدرس المستفاد عالميًا هو أن تحسين قابلية العيش في المدن المليونية لا يبدأ بالمشاريع فحسب، بل يبدأ بإصلاح هياكل الإدارة. فالحوكمة الرشيدة التي ترسم حدود الاختصاصات بوضوح وتعزِّز التعاون، تحول المدن إلى محركات اقتصادية فعَّالة.
فبدلاً من المشاريع المجزأة، ينبغي تركيز الجهود على التنسيق والتكامل. فعندما تُجزّأ إدارة المدينة بين عشرات الجهات، تتضارب الأولويات. والنتيجة على سبيل المثال شبكة نقل عامة قاصرة، ومشروعات مترو تنتهي عند حدود إدارية وليس عند المناطق المكتظة بالسكان.
وهنا تأتي تجربة الرياض الناجحة لتكشف أن الإدارة الرشيدة والنقل العام الفعَّال هو ما يصنع مدينة مؤنسنة وقابلة للعيش.