د. عيد بن مسعود الجهني
منذ العصر الحجري القديم، مرورا بزمن السومريين والأكاديين بين (2000-2800 ق.م) والآشوريين (612-1900 ق.م)، وحتى عهد الرومان، واليونان، والعرب في الجاهلية، انحصرت أدوات قتالهم تطورا من الفأس إلى السهام والخناجر والرماح والسيوف والدروع والأقواس ..الخ.
وفي الدولة الإسلامية زادوا عليها بقوة الجياد، وفي الدولتين الأموية والعباسية استخدموا الأسلحة النارية والمنجنيق والبارود، وفي القرنين الثاني عشر والثالث عشر استعمل المغول أسلحة منها البنادق والمدافع وغيرها.
وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر استخدم العثمانيون الأسلحة الفردية والنارية والمدافع.
وفي القارة الأوربية كانت هناك صناعات حربية متطورة منها الطائرات والسفن الحربية وغيرها، ودارت حروب دامية في تلك القارة عنوانها استعمال القوة وقامت إمبراطوريات وانهارت أخرى.
و(القوي) من أسماء الله الحسنى بها أثنى على نفسه في كتابه العزيز فقال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الذاريات - 58)، وقال: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} (البقرة - 165)،
وأثنى الله بالقوة على أحد ملائكته وهو جبريل، حيث قال في كتابه العزيز {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} (النجم - 6)، ودعا القرآن المسلمين إلى امتلاك القوة فقال: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (الأنفال 60).
وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف فقال (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) رواه مسلم، فالقوة ليست ترفاً، بل هي حاجة حقيقية للفرد والمجتمع والدول.
فلا أحد يرضى الضعف، والإنسان دائما يحاول امتلاك القوة وأسبابها، وهذا لا ينافي رغبته في إقامة السلام.
وإذا عرفنا بعض مبادئ القوة في القرن المنصرم وهذا القرن يتضح أنها الأسلوب الأوحد في النصر أو الهزيمة.
فالقوة هي التي حسمت الحرب العالمية الأولى.
والقوة هي التي كتبت تاريخ نهاية الحرب الكونية الثانية.
والقوة هي التي تسير النظام العالمي الجديد.
وهي القوة بطغيانها التي كانت عنوانا بارزا في الحروب العديدة التي شهدها العالم خلال الحرب الباردة وبعد غروب شمس الاتحاد السوفييتي السابق.
وفي الفترة بين 1905 ـ 1913 كان المشهد الدولي عنوانه الخلو من حروب دموية، لكن أصبح النظام الدولي بعد ذلك مشحونا بأحداث مأساوية تركت آثارها الخطيرة على العالم - وكان النصف الأول من ذلك القرن شاهداً على صراع الدول الكبرى على اقتسام المستعمرات ومناطق النفوذ مما أشعل فتيل حربين عالميتين مدمرتين، راح ضحيتهما عشرات الملايين من البشر.. وقد تسببتا باهتزاز غير مسبوق في ميزان القوى الدولية، وتفككت الإمبراطورية العثمانية بعد أن عاشت لفترة طويلة تترنح واستحقت بجدارة لقب (الرجل المريض).
وما أن انتهت الحرب الكونية الأولى بصراعاتها وبشراستها وما رافقها من تحولات وتطورات في النظام الدولي، فان العالم كان على موعد مع الانهيار الاقتصادي الكبير عام 1929 الذي يمكن القول إن الحرب الكونية الثانية خرجت من رحمه.
فالنازي هتلر الذي كان يمتلك قوة كبرى استطاع ضم النمسا، بل والاستيلاء على تشيكوسلوفاكيا، وفي شهر سبتمبر 1939 عبر حوالي (1.5) مليون جندي ألماني الحدود البولندية بدعم (2000) طائرة إضافة إلى (2500) دبابة ليحتل جزءا كبيرا من بولندا.
أمام تلك الأحداث المتسارعة كان ليس أمام كل من بريطانيا وفرنسا سوى إعلان الحرب على ألمانيا، لتبدأ شرارة الحرب الكونية الثانية.
وفي الثامن من شهر ديسمبر 1941 عندما هاجم الانتحاريون اليابانيون قاعدة بيرل هاربر بهاواي انضمت أمريكا إلى الحرب.
وبعد أن خمدت نيران تلك الحرب بدأ الساسة التفكير في مستقبل أفضل، فكان مؤتمر يالطا الذي خرج من رحمه توقيع اتفاقية بين أمريكا والاتحاد السوفييتي (السابق)، بريطانيا، لتشهد تلك المدينة الروسية الواقعة على سواحل البحر الأسود في 11 فبراير 1945 عملية تقسيم ألمانيا التي بقيت أرضها واختفى (النازي) فلم يعرف أين مكانه حتى اليوم!
حتى أن مؤتمر سان فرانسيسكو الذي انعقد في شهر أبريل 1945 تحت شعار (السلام والكرامة على كوكب ينعم بالصحة) والذي وافق على ميثاق الأمم المتحدة والنظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية الجديدة، كان هدفه احتكار سلطة إرادة المجتمع الدولي في يد الدول المنتصرة في تلك الحرب صاحبة حق الفيتو البغيض في مجلس الأمن.
وما بين تأسيس الأمم المتحدة واليوم قامت حروب عديدة أطرافها بالوكالة أو مباشرة للأسف الدول الخمسة أعضاء مجلس الأمن خاصة أمريكا والاتحاد السوفييتي (السابق)، وفي مقدمتها الحرب الباردة التي كان طرفاها الغول الأمريكي والدب الروسي 1950 - 1991 عام انهيار إمبراطورية الاتحاد السوفييتي (السابق) الحرب الإيرانية ــ العراقية، 1980 ــ 1988، احتلال العراق لدولة الكويت أغسطس 1990، حرب يوغسلافيا 1980 ــ 1991 ولا نذكر تلك الحرب إلا وتبرز مذبحة أكثر من (8300) من المسلمين في البوسنة والهرسك خلال أيام معدودة بين 11 - 22 من شهر يوليو 1995، والصراع في شبه الجزيرة الكورية بين عامي 1950 و 1953 حيث غزت كوريا الشمالية كوريا الجنوبية في 25 يونيو 1950 وانتهت بتوقيع هدنة في 27 يوليو 1953 مما أدى إلى انقسام دائم لشبه الجزيرة الكورية، ومن رحم الحرب الباردة كانت الحرب الفيتنامية 1955 -ـ 1975 وكانت بين فيتنام الشمالية التي كانت مدعومة من الاتحاد السوفييتي والصين، وفيتنام الجنوبية المدعومة من الولايات المتحدة وحلفائها وقد اشتدت ضراوته بتدخل عسكري مباشر من الولايات المتحدة عام 1956 وانتهت بانسحاب القوات الأمريكية عام 1973 وسقوط سايغون في يد القوات الفيتنامية الشمالية في 30 ابريل 1975، وما جاء عام 1956 حتى أعلنت بريطانيا ومعها فرنسا وإسرائيل الحرب على مصر، وكان مصير تلك الحرب (الخذلان)، لكن شر (القوة) لم يتوقف ضد مصر إذ أعلنت الدولة العبرية حربها الثانية عليها عام 1967، وقد كانت حرب 1973 التي كسرت شوكت القوات الإسرائيلية المفتاح الرئيسي للتوصل إلى السلام بين مصر والأردن والدولة العبرية، وجاء دور أفغانستان ليحتله الاتحاد السوفيتي السابق أواخر عام 1979، وما ان رحل الروس حتى جاء دور أمريكا لتحتل ذلك البلد 2001، ثم احتلال العراق 2003.
وقد شهد العالم نوعا من الهدوء لم يعكره سوى احتلال روسيا لجزيرة القرم الأوكرانية في شهر فبراير 2014 وضمها لروسيا في 18 من شهر مارس 2014، وجاءت كارثة حرب إسرائيل على غزة في 7 أكتوبر 2023 واستمرت الحرب حتى 2025.
وقد جاء الغزو الروسي لأوكرانيا في شهر فبراير 2022 وقد تسبب الغزو في عودة التوتر والصراع في القارة العجوز التي كانت أكبر مسرح لأحداث تلك الحرب، وقد شهدت منطقة الشرق الأوسط وتحديدا العالم العربي حرب الأيام الاثني عشر الشرسة بين إسرائيل وإيران بتاريخ 13 يونيو 2025 - 24 يونيو 2025، الصراع الإسرائيلي الإيراني الذي نعتقد أنه لا زال مستمرا وقد يخرج من رحمه حرب أكثر تدميرا، لكن الأهم ان إيران استهدفت قاعدة عيديد، وفعلت إسرائيل نفس الشيء ولم يقدما سوى الاعتذار لدولة قطر الشقيقة وما ارتكبته الدولتان ضد سيادة دولة مستقلة يعتبر خرقا للقانون الدولي والأعراف الدولية وميثاق الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف الأربع.
في هذه الألفية الثالثة يشهد العالم نزاعات وعداءات وأزمات وصراعات وحروبا ضروس في العديد من دول كوكبنا الأرضي، وأخيرا وليس الأخير القارة التي اندلعت من على أرضها حربين كونيتين فها هي تشهد حربا ضروس تشنها روسيا على الجارة أوكرانيا، تجعل عالمنا اليوم قابلا للانفجار في أي لحظة في ظل لهيب هذه الأزمات الخطيرة والمعرجات والتصعيدات المشتعلة غير المسبوقة منذ الحرب الكونية الثانية.
ويسجل التاريخ الحديث وتحديدا في القرن المنصرم انه خلال الحربين المدمرتين تغيرت خريطة أوربا والعالم بسبب انهيار الإمبراطوريات الألمانية - الروسية - النمساوية - المجرية - العثمانية، ومع نهاية الحرب الكونية الثانية سقطت إمبراطوريات أخرى منها إيطاليا - اليابان - ألمانيا - وفي نفس السياق فقدت الإمبراطورية البريطانية - الفرنسية - الهولندية - مستعمراتها وهياكلها، وإذا استقرأنا هذه الحقيقة فلا بد من الرجوع إلى التاريخ فالعديد من الدول والإمبراطوريات كانت نهايتها عندما استخدمت قواتها في القهر والبطش.
فهل ستشهد الألفية الثالثة سقوط إمبراطوريات لها القدح المعلى في توجيه السياسة الدولية ونشر الصراعات والحروب في قارات العالم بعيدا عن حدودها.
إذاً، التاريخ يحدثنا بلغة واضحة كيف تبرز إمبراطوريات وتتنحى عن سباق (القوة) إمبراطوريات ودول أخرى، الحروب الكبرى التي شهدها القرن المنصرم كانت السبب الرئيس في سقوط تلك الإمبراطوريات.
المشهد العالمي اليوم على مستوى الاقتصاد والنفط والسياسة والعلاقات الدولية والحروب العسكرية وسباق التسلح وصراع روسي تدعمه إيران وكوريا الشمالية علنا والصين على استحياء ليتكون محور يقابله آخر أمريكي أوربي يؤكد ان عامود انهيار إمبراطوريات وهيمنة غيرها على المسرح العالمي قد أصبح واضحا.
ولا شك ان المستقبل بيد الخالق، ونحن كبشر قد نتحدث ونحلل الأحداث لكننا لا نملك محددات المستقبل.
والله ولي التوفيق،،،
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة