هدى بنت فهد المعجل
نركض، بلا سبب واضح، بلا هدف محسوس. كل إشعار يصرخ: «عجّل!»، وكل ثانية تمرّ كأنها تهدر حياتنا. لم نعد نعيش اللحظة، بل نلتقطها بسرعة لتوثق على صورة أو فيديو، قبل أن تختفي بين آلاف اللحظات الأخرى. نحن جيل السرعة، لكننا في الحقيقة جيل الفراغ.
في الماضي، كان الانتظار فنًا. الانتظار يعلمنا الصبر، ويجعل لكل إنجاز وزنًا. اليوم، أصبح الانتظار عارًا، بل فشلًا. أي شيء يمكن أن نحصل عليه بضغطة زر، من المعلومات إلى الطعام، وحتى الاهتمام البشري. هذا السرعة لم تمنحنا الحرية، بل سلبتنا القدرة على التمعّن، على التفكير العميق، على أن نكون مع أنفسنا.
نحن نقرأ بعينينا، نستمع بأذننا، لكننا لا نرى، ولا نفهم. مقطع قصير يكفي ليحملنا بعيدًا عن الواقع، ومنشور من سطرين يختصر تجربة حياتية بأكملها. العقل يتكيف مع هذا الإيقاع السريع، لكنه يفقد القدرة على الغوص في المعنى، على الشعور، على التعمّق.
والأدهى من ذلك أن السرعة سرقت علاقتنا بذواتنا. نملأ الفراغ بالضجيج المستمر، نهرب من الصمت الذي يكشف ما نخفيه عن أنفسنا. كل هروب قصير، وكل تمرير سريع للمحتوى، هو محاولة للهروب من مواجهة أسئلة الحياة الكبرى.
حتى النجاح تغير شكله. أصبح قياسه بعدد المتابعين، بالمكاسب السريعة، بالشهرة المؤقتة. الطريق لم يعد مهمًا، فقط الوصول. لكن كل وصول سريع يترك فراغًا داخليًا، وكل سقوط قاسٍ يعلمنا درسًا نادرًا: لا شيء يبقى بلا جذور.
ومع كل هذا، السرعة ليست شرًا. الشر الحقيقي هو الاستسلام لها، السماح للتكنولوجيا بأن تقرر إيقاع حياتنا، أن تسرق انتباهنا، وأن تجعلنا نعتقد أن البطء ضعف. الحقيقة أن البطء قوة. أن تتأمل، أن تختار، أن تتحكم بإيقاعك.. هذا تمرّد صامت على عالم يركض بلا هدف.
ربما الحل بسيط، لكنه صعب: توقف. انظر حولك. تذوق اللحظة قبل أن تهرب منها. اسمع نفسك قبل أن تملأ أذنك بالضجيج. أعد لنفسك زمنك، وأعد للعالم معنى، لأن السرعة بلا وعي ليست تقدمًا، بل موتًا بطيئًا.
في عالم يصرخ «أسرع»، أذكى قرار هو أن تبطئ، وأن تعيش اللحظة. ربما هناك، في تلك اللحظة الصامتة، تكمن الحرية الحقيقية، وحيث يبدأ الإنسان بالعودة إلى ذاته.